الوجيز في قانون المسطرة المدنية
مقدمة
إذا كان من المحقق ضرورة
القانون للمجتمع، فإن مجرد تقرير القواعد القانونية لايكفي لسلامة الحياة
الاجتماعية و انتظامها، فقد يختلف الناس فيما بينهم على معنى القواعد القانونية مع
التسليم بوجودها و بوجوب احترامها.
من هنا ومما لا شك فيه
أن صياغة القواعد القانونية الموضوعية، تختلف اختلافا عن صياغة القواعد الإجرائية
خاصة فيما يتعلق بعنصري المرونة والجمود فيهما، فإذا كانت القاعدة الموضوعية تضفي
هامشا من المرونة قد يضيق أو يتسع حسبما يستوجب حكمها، فإن القاعدة الإجرائية بطبيعتها
يكون القصد من وضعها تنظيم إجراء معين بحكم جامد لايحتمل التأويل، فيكون صعبا
تطبيق قاعدة مسطرية بمفهوم مخالف لحكمها لما يحمله هذا التطبيق من رفض لمضمونها و
ابتعادا عن جوهرها وعن حقيقة مقاصدها، وتتجه الدراسات الحديثة في فقه المسطرة إلى
تأصيل قواعده، وهكذا أنشأ فقه الدعوى و العمل القضائي و الخصومة و الإجراء
صياغة نظريات عامة تحكم المسائل الجزئية التي تدخل في إطارها، إذ تتجسد أهمية هذه
النظريات في التعبير عن تطور العلم الإجرائي أو المسطري ليلحق بسائر العلوم
القانونية الموضوعية.
فالنظريات الإجرائية تثري في مجملها النظرية العامة للقانون و تجعلها أكثر
إحاطة بالظاهرة القانونية بكل فروعها و شعبها، لذلك فتناول مواضيع هذا الكتاب
لاینحصر مطلقا في الشرح النظري للقاعدة الإجرائية، وإنما يتم التركيز بدرجة كبيرة
على كيفية تطبيقها إما انطلاقا من مضمونها أو من حكم قضائي، و الغاية هنا عدم
الإحاطة الإجمالية بكل ماورد في قانون المسطرة المدنية من فصول،
و عددها 528، وإنما تتجلى درجة الأهمية في تناول النصوص من خلال تطبيقاتها
القضائية، و التحقق من مدى تلاؤم هذا التطبيق مع جوهر القاعدة المسطرية، أو
ابتعاده عنه.
وتبقى قواعد المسطرة المدنية ليست كلها من نمط واحد، حيث
قواعد شروط صحة التقاضي و أخرى منظمة للأحكام و قابليتها للطعن، و قواعد تخص أجل
الطعن و صحته، وهي كلها قواعد جامدة )الفصول 19 و 134 و345
و 355 و 358 و515 إلى غير ذلك من الفصول) تختلف بشكل متباين مثلا عن الفصل 32 و
الفصل 334 فيما يخص المستندات المرفقة بالمقال و المراد استعمالها في الدعوى عما
يمكن الأمر به من إجراءات التحقيق و مجال السلطة في ذلك الموكول للقاضي المقرر أو
المحكمة.
وبما أن قانون المسطرة المدنية هو قانون القضاء المدني،
فإن تأصيل القواعد المنظمة لأعمال القضاء ينبغي أن يحتل مكان الصدارة في الدراسة
التأصيلية. فالقضاء المدني لا يقتصر نشاطه على العمل القضائي بالمعنى الدقيق، أي
إصدار أحكام تفصل في الدعاوى المرفوعة أمامها و ترتب حجية الأمر المقضي، بل يقوم
بأعمال أخرى عديدة و متباينة في شكلها و مضمونها، و الدراسة التأصيلية لهذه
الأعمال تقتضي تصنيفها إلى أنواع مختلفة، وتحديد القواعد العامة التي تحكم كل نوع
منها. وعموما ففي مجالي القضاء و الممارسة القضائية، يبقى دائما التصور قائما بشأن
مرونة القاضي في التعامل مع القاعدة القانونية و الاجتهاد فيها من داخلها، و ذلك
بفهم أحكامها بصورة متباينة، وكل هذا الأجل تفادي الأثر الضار بالعدالة ومن ثم
إضافة حكم للقاعدة القانونية أو إفراز حلول لها من خلال مقتضياتها.
إن دراسة مواضيع المسطرة المدنية يستلزم التدرج حيث
التمہید بصحة التقاضي من خلال الدعوى و إجراءاتها، و تحديد أشكال
الدفوع المقدمة من قبل أطراف الدعوى و مرورا بمسطرة التبليغ
مبرزين المساطر أمام المحاكم بنوعيها الكتابية و الشفوية ثم الطعن.
بعد هذه المقدمة ننتقل إلى بحث المواضيع المقررة لهذا الفصل في قانون
المسطرة المدنية، وهي نظريات: الدعوى والأحكام وطرق الطعن وطرق التنفيذ لذلك
فإننا سنوزعها على ثلاثة أبواب نخصص أولها للدعوى والثاني للأحكام والثالث الطرق
الطعن.
الباب الأول : الدعوى
الدعوى باعتبارها الوسيلة التي يلجأ إلى استعمالها صاحب الحق لطلب الحماية
القضائية لحقه، لم تكن موضوع اتفاق بين فقهاء المسطرة، سواء فيما يتعلق بتعريفها
والخصائص المميزة لها، أو فيما يخص مدى علاقتها بالحق الذي تحميه. ذلك أن الدعوى
ليست الوسيلة الوحيدة التي تسمح بها الدولة للفرد للدفاع عن حقوقه بعد أن منعته من
اقتضائها بنفسه، بل هناك وسائل أخرى يسمح القانون للفرد بممارستها في إطار توفير
الحماية لحقه الذي اعتدي عليه، ولكي لا تختلط الدعوى بهذه
الوسائل، يجب وضع تعريف لها يحدد معالمها ويبين خصائصها المميزة لها عن غيرها من
الأنظمة المشابهة التي قد تختلط بها، وهو ما سيكون موضوع الفصل الأول من هذا
الباب. فإذا انتهينا من تحديد معالم الدعوى بدت الحاجة ملحة إلى بيان شروطها التي
يجب أن تتوافر حتى تسمع من طرف القضاء، ذلك أن ترك باب القضاء مفتوحا لكل طارق
سيؤدي إلى شغل هذا الجهاز بقضايا يكون من العبث سماعها نظرا لانتفاء أي مصلحة فها
أو لتفاهة المصالح التي تود حمايتها، لذلك يجب وضع شروط بحيث يقتصر دخول ساحة
القضاء على من له مصلحة جديرة بالحماية القضائية، وبيان هذه الشروط وأنواعها هو ما
سيكون موضوع الفصل الثاني.
غير أنه لما كانت شروط قبول الدعاوى منها ما هو عام بين مختلف أصنافها
ومنها ما هو خاص ببعضها دون البعض الآخر، فإنه يكون من الضروري عقد بحث خاص
لتصنيف الدعوى وبيان مختلف أنواعها وأشكالها وهو ما سيكون موضوع
الفصل الثالث، بيد أن الدعوى في حد ذاتها لا توفر الحماية للحق الموضوعي بصورة
تلقائية، بل لابد للوصول إلى هذا الهدف من تفعيلها، وتفعليها يكون بتحريكها بواسطة
إجراء تحرص مختلف التشريعات على إحاطته بعناية خاصة باعتباره الأداة التقنية التي
تمكن من استعمال الدعوى، فبدون استعمال الدعوى تبقى هذه الأخيرة مجرد مناقشات
نظرية لا طائل من ورائها، لذلك خصصنا الفصل الرابع والأخير من هذا الباب
الاستعمال الدعوى.
وبذلك ترتسم أمامنا خطة البحث في هذا الباب فنقسمه إلى أربعة فصول كما يلي:
الفصل الأول:
تعريف الدعوى، وبيان خصائصها وتمييزها عن الحق الموضوعي
الفصل الثاني: شروط قبول
الدعوى
الفصل
الثالث: تصنيف الدعاوی
الفصل
الرابع: استعمال الدعوى