مداخل أساسية لتحديث الإدارة العمومية وتنميتها
د. محمد الزاهي
أستاذ مؤهل بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة كلية العلوم القانونية والاقتصادية
والاجتماعية
أمام التحولات التي
يعرفها المغرب المعاصر، والتي انعكست على قطاعات النشاط الإداري، وبالنظر إلى
التوجهات الجديدة التي تبنتها السلطات العمومية في هذا المجال خاصة استكمال دولة
القانون؛ أهمها تطوير مفاهيم حقوق الإنسان، وتشجيع الاستثمارات والمبادرات
الفردية، ....، أصبحت تبرز أهمية بناء إدارة عصرية كمؤشر حقيقي على الانفتاح،
تتوفر لديها القدرة على استيعاب التحولات السياسية الحاصلة، وهذا لن يتأتى إلا
بتنمية إدارية شاملة.
والتنمية
باعتبارها عملية مجتمعية لا تتحقق دون وجود إدارة فعالة. فالإدارة تمثل الآلية
الأساسية لهندسة استراتيجية التنمية والإشراف على تنفيذها وصولا إلى
غاياتها بأعلى قدر من الكفاءة والفعالية. إلا أن الأجهزة الإدارية لا يمكن أن تقوم
بأعباء التنمية ومتطلبات تنفيذ خططها بكفاءة عالية إلا بعد إصلاحها وتنميتها وفق
مداخل حديثة في الإدارة والتنظيم.
لذلك أضحى التفكير
في أسس وضع علاقات سليمة بين أجهزة الدولة والمرتفقين أمرا حتميا، بما يكفل
الاحترام المتبادل، ويعزز الثقة بينهما. وهو ما يجعل مسلسل الإصلاح والتحديث
الإداريين من بين الاهتمامات الرئيسية للسلطات العمومية في المغرب والهادفة إلى
جعل الإدارة أكثر مردودية وفعالية، محاولة منها تجاوز المداخل التقليدية التي تؤكد
على
الجوانب الهيكلية
والتنظيمية والمسؤولية القانونية والإدارية للعاملين في مختلف مستوياتهم، إلى
مقاربات جديدة كمدخل للتنمية الإدارية والتي ترتكز على إحداث تغييرات في
طبيعة النشاطات الفكرية والسلوكية داخل الجهاز الإداري ، و تسهيل الانفتاح على
مختلف المكونات الاجتماعية و ترشيد آليات التواصل وجودة أساليب الاستقبال، و تمكين
المواطن من استيعاب مغزى القرارات الإدارية بإزاحة الأقنعة عن الدوافع الكامنة
وراء اتخاذ هذه القرارات من جهة، والسماح له بالحصول على المعلومات
والوثائق الرسمية الموجودة بحوزة الإدارة، من جهة ثانية. وهنا تتجلى، أيضا، أهمية
التخليق الإداري لأنه مؤشر مميز لتقدير حدوث تغيير حقيقي في المجال الإداري، لأن
مظاهر الفساد من شأنها إثارة ردود أفعال سلبية من جهة المواطنين، والحد من إنجاح
أي مشروع للإصلاح مهما كان طموحا. وفي المقابل، فإن تأسيس قيم جديدة في تدبير
الشأن العام، وتهذيب الحياة الإدارية سيساهم في خلق التوازنات الاجتماعية
والسياسية المنشودة، وإحداث انطباع بالتقارب و میل نحو القبول بالأنظمة الإدارية
إن تنمية الإدارة
وتطويرها لا يمكن أن تجد غاياتها الحقيقية ومشروعيتها وفعاليتها إلا باندماج
الإدارة الاجتماعي والاقتصادي. فعلى درجة الانفتاح وتبسيط المساطر والإجراءات
الإدارية وإقامة توافق في مجال اتخاذ القرار كمؤشر على دمقرطة الحياة الإدارية، وكذا
إجراءات الحصول على الخدمات دون بطء أو تأخير، وخلق المناخ الملائم لإنعاش
الاستثمار في إطار دينامية جديدة تتوخى محو العراقيل. كلها عناصر تساهم في تحقيق
تنمية إدارية شاملة
كيف يمكن
حدوث ذلك؟ ماهي المعوقات التي تقف حجرة عثرة أمام تحقيق التنمية الإدارية؟ وكيف
يمكن تصور مداخل جديدة لتجاوز هذه المعوقات؟
لبلوغ هذه الأهداف
يبدو من الضروري بذل مجهودات مهمة على مستويين، فمن جهة ينبغي تطهير الجو العام من
الفساد الإداري وإرساء مقاربة حديثة وشمولية للتخليق داخل المرفق العمومي. ومن جهة
أخرى، مراجعة أشكال ووسائل التواصل الداخلي وتحسين نظام الاستقبال كمداخل أساسية
لتنمية الإدارة وتطويرها.
وعلى هذا الأساس
ارتأينا تقسيم هذا البحث إلى محورين رئيسيين، بحيث نعالج في المحور الأول الاتصال
كآلية لتدعيم منهجية التنمية والتطوير، على أن نتطرق في المحور الثاني إلى التنمية
الإدارة من خلال تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية.
المحور الأول: الاتصال كآلية لتدعيم منهجية التنمية والتطوير الإداري
إن الاتصال الإداري كسيرورة
دائمة ومستمرة يمكن أن تتخذ شكلين رئيسيين متكاملين؛ يرتبط الأول بنظامي الاستقبال
والإرشاد تكون الإدارة ملزمة بالقيام بمجهود متواصل لتعزيز روابط الثقة، وتحسين
نوعية الخدمات المقدمة للمواطنين. أما الثاني فيتعلق بنظام التواصل كأحد الرهانات
داخل نسيج الإدارة العمومية، وذلك للدور الذي يمكن أن يلعبه في التسيير الإداري عن
طريق المساهمة في ترسيخ صورة إيجابية عن الإدارة، سواء على المستوى الداخلي أي بين
الأعوان العاملين.
إذا كان العنصر
الرئيسي في مجال التواصل العام هو العلاقة بين الموظف والمرتفق، فإن اهتماما مسبقا
من المفروض أن ينصب بالأساس على التواصل الداخلي باعتباره أولوية لا يمكن تفاديها
لإضفاء المشروعية على أعمال المرفق العمومي إذ "ينبغي تنظيف كل شيء من الداخل
حتى يتم لمعانه من الخارج".
وعلى هذا الأساس،
سنقوم بمقاربة نظام الاستقبال في (المطلب الأول). وفي (المطلب الثاني ) نتطرق إلى
نظام التواصل على المستوى الداخلي.
المطلب الأول: نظام الاستقبال كمدخل أساسي لأنسنة الإدارة
تحيلنا لفظة
الاستقبال على العديد من المفاهيم التي هي بدورها تحتوي على العديد من الوظائف.
وقد يعني الاستقبال قدرة الشخص على الإنصات والتوجيه والمساعدة وتسهيل الطريق
لولوج حق من الحقوق داخل إدارة معينة. فحسب روبير كاترين Robert Catherine، فإن
الاستقبال لا يمكن اختزاله في تلك الابتسامة النمطية، بل يعد وعدا بالاتصال الحسن وقابلية
للتفاهم، إنه الاستقبال البسيط والإنساني الذي يتحتم فيه على المسؤول أن يأخذ وقته
الكافي للاستماع ولفهم الطرف الآخرة. ويمكن تحديد عملية الاستقبال أيضا انطلاقا من
اللحظة التي يدخل فيها المرتفق في معاملة الإدارة، إلى غاية اللحظة التي يغادر
فيها تلك الإدارة.
إن الاعتراف بأهمية
وجدوى الاستقبال على صعيد مجموع الإدارات العمومية رهين بتحسين المناخ العام
الداخلي لاستقبال المواطنين. وهذا لن يتأتى إلا من خلال إعطاء اهتمام خاص بتكوين
الموظفين المكلفين بوظائف أنظمة الاستقبال، باعتبار أن الموظف هو العنصر الأقرب
إلى المواطنين. ومن تم فإن تحسيس هذا الموظف بالقيم المبنية على الاحترام والتسامح
والمساعدة والتواضع في معاملة المرتفقين يشكل إحدى المقاربات الضرورية لقيام قرب
حقيقي كفيل بتسهيل اتصال مباشر وشخصي بينه وبين المسؤولين الإداريين بغية تعديل
انطباعهم السلبي عن الإدارة العمومية
جاء في خطاب جلالة
الملك في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية
العشرة بتاريخ اكتوبر 2016 " إن الصعوبات التي تواجه المواطن في علاقته بالإدارة
كثيرة ومتعددة، تبتدئ من الاستقبال، مرورا بالتواصل، إلى معالجة الملفات والوثائق
بحيث أصبحت ترتبط في ذهنه بمسار المحارب ".
جلالة الملك يعري
على مجموعة من الاختلالات، أهمها: الاستقبال والتواصل والضعف في الأداء،
والشفافية...ثم يربط تحقيق التنمية الادارية بنجاعة الادارة العمومية الامر
الذي يتطلب تغيير في السلوكيات والعقليات وكذا تجويد التشريعات...
تجاه ضرورة تعزيز
روابط الثقة بين الإدارة والمرتفقين وتحسين جودة الخدمات المقدمة، بالإضافة إلى
تكريس ثقافة إنصات الإدارة لمختلف شکایات المواطنين، وفي ظل انعدام موحد
للاستقبال، وضعف ظروف استقبال المرتفقين وإرشادهم ألحت السلطات العمومية على ضرورة
وجود إدارة تهتم بنظام الاستقبال والإرشاد على المستويين: المركزي واللامتمرکز وتوليهما
أهمية خاصة. من هذا المنطلق، قامت وزارة الوظيفة العمومية و تحديث الإدارة بإعداد
وإصدار ميثاق للاستقبال يهدف إلى تحسين ظروف الاستقبال و إعطاء قدر أكبر لرغبات
المرتفقين و خلق تعاون أفضل بين مختلف المرافق العمومية، مجددا القيم و القواعد
الأساسية التي تشكل أساس عمل و سلوكيات جميع الإدارات. كما فعلت منظومة الاستقبال
على مستوى ثلاث وحدات نموذجية.
فعن طريق التكوين
يتم القضاء تدريجيا على مظاهر التسلط والتسيب الناتجة عن مؤثرات تاريخية واجتماعية
كالكبرياء والتعالي والوساطة ...وبناء شخصية وإرادة حقيقية للموظفين تغلب عليها
روح المواطنة والمواظبة والإحساس بخدمة المواطن. وفي هذا الاتجاه، ينبغي أن يعهد
نظام الاستقبال إلى بنية إدارية مستقلة تتولى مهمة تكوين هؤلاء الموظفين قصد تبني
سياسة موحدة في هذا المجال، وتحقيق التنسيق والانسجام على مستوى التطبيق، على أن
يأخذ في الاعتبار خصوصية الإدارة التي ينتمي إليها الموظف. خصوصا وأن بعض الإدارات
العمومية لازالت لم تقم بأي مجهود في هذا المجال. في حين أنه قد حصل تطور لا
يستهان به على مستوى وظائف الاستقبال في إدارات أخرى.
المطلب الثاني: التواصل الداخلي مدخل أساسي لتحقيق التنمية الإدارية
يعتبر التواصل ركنا
أساسيا في عمل الإدارة، وذلك بإشاعة ثقافة الحوار والتشاور على نطاق واسع داخل
الجهاز الإداري، مما يتيح للإدارة تحسين علاقاتها مع محيطها ويوفر لها شروطا أفضل
لاتخاذ قراراتها وتطبيقها.
ويعرف التواصل بأنه
فن خلق وإشاعة التفاهم بين مكونات الإدارة، أي تبادل ونقل المعلومات والأفكار، ونشرها
بين مستوياتها. كما أن التواصل يندرج في إطار مفهوم أشمل يعتبر من المفاهيم
الأساسية في الإدارة الحديثة، يهدف إلى إقامة علاقات مفعمة بالثقة والمحافظة عليها
داخل الإدارة وخارجها.
إن اعتماد مقاربة
التواصل الفعال داخل الأجهزة الإدارية، يشكل حجر الزاوية في تمرير خطاب الإدارة وإيصال
وجهة نظرها إلى من يهمهم الأمر بكل سهولة ويسر، وعلى العكس، فالإدارة التي لا تأخذ
بنظام التواصل، أو تأخذ به في نطاق محدود أو يقتصر على مستويات معينة، هي إدارة
غير فعالة، أما التي ينعدم فيها التواصل فهي إدارة مشلولة" ومنغلقة.
إن المعاينة
الواقعية تكشف أزمة التواصل داخل الإدارة العمومية، وأن هذه الأخيرة قد تأخرت في
الاعتراف بمسألة تداول المعلومات والبيانات حتى بات التواصل إشكالية الإدارة في
العصر الحديث. ويمكن إجمال الأسباب فيما يلي:
: أولا: تضخم
البنيات والوظائف الإدارية؛
وثانيا: تعدد
المستويات داخل الجهاز الإداري الواحد، وتزايد الأعداد الكبيرة من العاملين، وتعدد العلاقات وتشابكها؛
ثالثا: استعمال
الآليات السلطوية.
إن أي سياسة لتنمية
الادارة وجعلها قريبة مواطنيها و التواصل معهم تتطلب قبل كل شيء تداولا سليما
للمعلومات الإدارية بين مختلف الموظفين العموميين على اختلاف مراتبهم داخل الهرم
الإداري، طالما أنه سيتم الاعتماد عليهم في تلبية حاجيات المرتفقين و في تحديد
نوعية الخدمات المقدمة إليهم، و بالتالي في جزء مهم عن الصورة التي يمكن أن تتولد
لديهم عن الإدارة، و التي تنبني أساسا حول المشروعية و الكفاية و الفعالية. وهذا
الشكل من التواصل هو الأكثر استخداما في الوحدات الإدارية، وذو حيوية لأن أي إدارة
قد تتوقف عن نشاطها إذا لم تتوفر على آلية تواصلية من الأعلى إلى الأسفل10.
وعليه، فهو وسيلة
لنقل أفكار وتطلعات و قرارات تنفيذية للخطط والسياسات تكون على شكل أوامر و
توجيهات تحدد الاختصاصات و توضح الأعمال وتبث في عدة شؤون تتعلق بالسير الإداري.
تعتبر الإدارة، في
هذا الصدد، مسؤولة عن إقناع هؤلاء الموظفين بسلامة قراراتها والحكمة من اتخاذها
حتى تحقق تعاونهم وتكسب تأييدهم وتحظى بولائهم، خاصة وأن الأفراد المسؤولين عن
التنفيذ غالبا ما يكونوا في حاجة إلى معلومات وبيانات تعرفهم بأهداف الإدارة وسياساتها
وخططها ونظمها حتى يكونون دائما على بينة من أمرهم في تصرفاتهم وسلوكهم وهم في
طريقهم لتحقيق تلك الأهداف. غير أن استيعاب توجهات الإدارة وأهدافها من قبل
الموظفين العاملين بها يتطلب تفادي الفصل الصارم بين المصالح الإدارية وأقسامها
الذي عادة ما يؤدي إلى جهل عمل الآخرين من جهة، ومن جهة أخرى إلى التخصص في المهام
الذي من شأنه أن يعوق أي تصور شمولي للعمل الذي تقوم به الإدارة في مجموعها. وهو
ما يفترض تظافر مختلف الجهود من اجتماعات، وتداول المذكرات ونشر المراجع التوثيقية
عبر كل وسائل التواصل المتاحة، كما يفترض امتلاك بادرة الرد السريع لإخبار
المرؤوسين دون تأخير لأنه لا يمكن في حالة العكس تفادي الأجوبة العامة وغير
الدقيقة التي قد تمثل بالنسبة للموظف المعني الذي تم استفساره الحل السهل.
بالمقابل، يمكن أن
تتدفق المعلومات من أسفل إلى أعلى، أي من المستويات الدنيا التنفيذية إلى
المستويات العليا. وقد تأخذ هذه المعلومات شكل اقتراحات وشكاوى وتقارير وأبحاث.
كما أن هذا النوع من التواصل له أهمية بالغة من خلال إتاحة فرص إبداء الرأي وتقديم
الاقتراحات والاستماع إلى مجمل الآراء الصادرة عن أعوانها كيفما كانت مراتبهم في
هيكل التنظيم. لأن هؤلاء الأعوان هم الأقرب إلى النشاط الإداري المزمع تنفيذه من
أولئك المسؤولين. لذلك، فمن دعامات الادارة الحديثة وجود طرق التواصل التي تكفل
نقل ما لدى الموظفين العاملين في خطوط التنفيذ من ملاحظات وآراء ومقترحات ومشاكل
خاصة بالعمل إلى المسؤولين، نظرا لما ييسره هذا النوع من الاتصالات لهذه الادارة
من أمر الإحاطة بما يقع من أحداث ووقائع، وما يدور بخلد العاملين من أفكار ووجهات
نظر وما يعترض سبيلهم من صعوبات وعراقيل. الأمر الذي يكشف النقاب عن حقيقة ما يجري
في ساحة هذه الإدارة، ويساعد على حل اشكاليات هذا التنفيذ والتطبيق وعلاج شكاوى
الموظفين، فترفع معنوياتهم ويتحسن أداؤهم ويزيد بالتالي تعاونهم مع الإدارة في
تحقيق الأهداف المتوخاة.
المحور الثاني: التنمية الإدارة من خلال تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية
يقصد بتبسيط المساطر
الإدارية مجموع الإجراءات العملية والبرغماتية التي من شأنها تطوير العلاقة بين
الإدارة والمرتفقين، وتعميق وقعها على الحياة الاجتماعية بصفة عامة ويهدف إلى
إزالة التعقيد أو التكرار أو التدبير في الوقت والجهد والمال. وهي عملية تكشف عن
أسهل طريقة لأداء عمل ما وتنفيذه
إلا أن الوصول إلى
هذه الأهداف ليس بالأمر الهين بالنظر إلى تشعب الأنظمة والتشريعات والمساطر
الإدارية و تزايد عدد الهياكل الإدارية مركزيا و محليا، وتعدد مستويات اتخاذ
القرار و تكلفة كل عملية للتبسيط. ومع ذلك وأمام هذه الوضعيات فإن السلطات
العمومية قد بدأت تعي ضرورة إعادة النظر في مساطر ومسالك الجهاز الإداري.
وهذا ما قامت به
وزارة تحديث القطاعات والوظيفة العمومية من خلال إعادة هندسة المساطر والإجراءات
الإدارية قصد خلق ثقة جديدة بين المرتفق والإدارة. وفي نفس الإطار، ولإضفاء الطابع
الإلزامي فيما يخص اعتماد الإجراءات التبسيطية، فقد تم إعداد مشروع مرسوم يحدد
إطار حكامة جيدة لإنجاز الأوراق المتعلقة بالتبسيط، سواء فيما يخص المساطر التي
تهم المرتفقين أو تلك التي تهم المقاولات أو التي تتعلق بالإدارات فيما بينها.
ويشكل هذا الورش أول
سابقة يتم من خلالها النظر إلى موضوع تقريب الإدارة من المرتفقين بواقعية أكثر، والتنديد
بالعيوب التي أصبحت تعاني منها الإدارة العمومية بجرأة أكبر. ومن ثم أضحى التقريب
الوظيفي للإدارة من خلال تبسيط المساطر والإجراءات يشكل إحدى مقتربات إدارة
التنمية.
من هذا المنطلق،
سنتناول واقع المساطر والإجراءات الإدارية في الفرع الأول ثم المقاربة الجديدة
للتبسيط من خلال آليات التوحيد والتدوين والتنسيق في الفرع الثاني.
الفقرة الأولى: واقع المساطر والإجراءات الإدارية
إن نجاح الإدارة
رهين بمدى قدرتها على الاستجابة الفورية والفعالة لمتطلبات المرتفقين. ولهذه
الغاية عمل المغرب على تجسيدها بتبنيه لمفهوم التحديث الإداري كمفهوم ثابت، الغرض
منه تقريب الإدارة من المواطن. وترجم هذا التحديث على مستوى مساطر كثيرة وإجراءات
متعددة إلا أنه بالرغم من كل الجهود التي بذلتها الدولة للتغلب على المشاكل التي
تعوق الأجهزة الإدارية عن تحقيق أهدافها وزيادة فعاليتها، مازالت هناك بعض
المعوقات المختلفة والنقائص الجوهرية المتعددة سواء على مستوى القوانين أو المساطر
أو الخلل في التنسيق بين الإدارات، أو الانغلاق على المستوى المركزي من خلال تجميع
سلطة اتخاذ القرار بين وحدات إدارية معينة. والإدارة في ظل هذا التعقيد وكثرة
الإجراءات تتحول إلى أداة جامدة؛ فينتج عنها نفور المواطنين وتراجعهم عن مواصلة
مطالبهم المشروعة. وما يزيد من تعقيد المساطر والمسالك الطويلة والمتشعبة والآجال
الممتدة وثقل الملفات يرجع إلى حدة البيروقراطية وهيمنتها من جهة (أولا)، ومن جهة
ثانية تعدد المتدخلين في اتخاذ القرارات (ثانيا).
أولا: حدة
البيروقراطية وهيمنتها
يعد مصطلح
البيروقراطية من المصطلحات الأساسية في قاموس العلوم الاجتماعية. وقد أثيرت نقاشات
حوله دون أن يتم حصره في تعريف علمي واضح، إذ اختلفت التعاريف التي قدمت له من
مفكر لأخر. فهناك من ينظر إليها على أساس أنها خاصية من خاصيات الإدارة المثالية،
وأرقى أشكال التنظيم الاجتماعي الذي يمكن أن تصله الدولة الحديثة، باعتبارها
التعبير الأمثل عن ظهورها. وهناك من يربطها بمفهوم الروتين والبطء وتعقد
الإجراءات14. أما "محمد محمود فرغلي" يعتبرها نمط إداري يتمسك بالشكل
دون الموضوع، ويتسم بالتخلف الإداري وكثرة التعقيدات والإهمال.
لقد عمل المغرب منذ
الستينات على بناء جهاز بيروقراطي قادر على تعزيز وتقوية سلطات الدولة، وبسط
نفوذها في مجمل الحياة، إذا اعتبرت مركزية السلطة وتقوية الإدارة المركزية هي
السبيل لإحراز تقدم سريع16. إلا أن البيروقراطية اليوم، كنموذج للتنظيم الإداري
يعرف مجموعة من السلبيات أبرزها الاتجاه المفرط نحو الانغلاق المركزي وتعقيد
المساطر والإجراءات، كما نصت على ذلك العبارة السامية: "إن إدارتنا عصرية من
حيث هياكلها وتنظيمها وتوفرها على أطر کفأة، إلا أنها تعرف كباقي الإدارات في
العالم اتجاها بيروقراطيا يتميز في اتخاذ القرارات بتعقيد المساطر والمسالك
الإدارية ..."17
إن الإدارة العمومية
المغربية، في ظل النظام البيروقراطي، تفرض على جميع العاملين أو المستفيدين في
خدماتها التعامل بمجموعة من الإجراءات و المساطر الإدارية حتى و إن أصبحت عبئا
ثقيلا على الطرفين؛ طالبها و مقدمها دون أن تأخذ بعين الاعتبار التحولات و
التغيرات التي عرفتها العقود الأخيرة على كافة المستويات، وما تمليه من العمل بدمقرطة
الأجهزة الإدارية حتى تواكب التجديد و التحديث، وذلك بإدخال أنظمة و طرق جديدة
للتسيير، وإعادة تنظيم البنيات الإدارية ضمن استراتيجية عمل شامل، هدفها علاج
أزمة16 المرفق العمومي و محاربة بطئه ورتابته و تخفيف مساطره.
حينما تصبح
البيروقراطية غاية في حد ذاتها، بحيث تطغى المصالح والهياكل الإدارية، تغيب
العقلية والتنسيق في العمل، وتشكل الإدارة أجهزة ضخمة منغلقة على ذاتها، وبعيدا عن
المواطن وعن خدماته؛ آنذاك تحيل البيروقراطية إلى كل ما هو سلبي، وتصير بالتالي من
أكبر عوائق خدمات القرب المرتبطة بحياة المواطنين. فالإدارة بإجراءاتها وسلوكياتها
الرتيبة وسوء تدبيرها للمرافق العمومية. إضافة إلى انكماشها على نفسها، وعجزها عن
الاستماع إلى انشغالات المتعاملين معها، تساعد على انتشار الظواهر السلبية مما
ينعكس على مصالح الجميع. وقد أشارت بعض الخطب الملكية على معضلة البيروقراطية20،
وذلك من خلال دعوة جلالته إلى التحلي بالمفهوم الجديد للسلطة، والذي قطع المغرب
الخطوات الأولى لتفعيله حتى يصبح ثقافة متجذرة وسلوكا يوميا وتلقائيا، بعيدا عن
التعقيدات البيروقراطية وعن غلو السلطات التقديرية للإدارة، التي أصبحت أكبر حاجز
أمام تنمية البلاد وتطور اقتصاده، وإزالة الحواجز عن طريق التجاوب الضروري بين
المواطن والإدارة وإشاعة مناخ الثقة بينهما. صحيح أن التنظيم الإداري بإقراره لهذه
المساطر والشكليات إنما يسعى بذلك إلى إقامة نوع من التوازن بين امتيازات الإدارة وحقوق
المواطنين، وخلق مناخ من التعاون بين الطرفين لما قد تبعثه النصوص الإجرائية في
نفوس الأفراد من طمأنينة وثقة في الجهة الإدارية. إلا أن المغالاة ومن ثم الانحراف
في تطبيق المبادئ التي يقوم عليها هذا المفهوم (كثرة التوقيعات والهوامش وعدم
احترام الآجال والغموض والإجراءات الزائدة...) هو الذي يجعله يؤثر سلبا داخل
الأوساط العمومية، لدرجة أصبح معها هذا المصطلح يستعمل للدلالة
على مختلف مظاهر
الخلل التي قد تشوب الأجهزة الإدارية وإغراقها في الشكليات دون الاستجابة لرغبات
المواطنين وتحقيق رضاهم إذا لم تخرج عن الحدود المعقولة. إلا أن الأفراد في تقييم
الادارة بحرفية تلك الأنظمة سيؤدي لامحالة إلى إغراقها في الشكليات والجهود في
تقييم الادارة بحرفية تلك الأنظمة سيؤدي لامحالة إلى إغراقها في الشكليات والجهود
الإدارية دون الاستجابة لرغبات المواطنين وتحقيق رضاهم.
ثانيا: الطابع
التعددي في اتخاذ القرارات
يتميز التشريع
المغربي بوجود ترسانة من الأنظمة والقوانين التي تنظم مختلف النشاطات الإنسانية، وهذا
راجع بالأساس إلى ازدياد وظائف الدولة الحديثة وتنوعها. ورغم هذا التعدد في
الأنساق القانونية يشكل ضوابط وقواعد لكل من مقدم الخدمة أو المستفيد منها، إذ
يخضع للمساءلة والمحاسبة كل من يتجاوز أو يتهاون فيها، إلا أنها تصبح عبئا ثقيلا
على كليهما.
إن التعدد والتنوع
يجعل المساطر الإدارية والإجراءات تعتريها مجموعة من السلبيات كالجمود والتعقيد، وذلك
من خلال إخضاع كل المعاملات للقانون والشكليات والتشديد في تطبيقها، الشيء الذي
يزج بالإدارة في متاهات تفرض عليها أن تعامل حالات مختلفة بقوالب قانونية واحدة و
تدفع بالمرتفق أن يسلك منعرجات مسطرية و شكلية، قد تضيع له الكثير من الوقت و
الجهد، أما من جانب الموظف فإن هذه الاعتبارات قد تؤدي به إلى التهرب من اتخاذ
المبادرة.
وإلى جانب ذلك، توجد
مظاهر أخرى تغذي خصوصية العمل الإداري، فباحتكارها امتياز تحديد القواعد القانونية
وتأويلها بالشكل الذي يتناسب وأغراضها، تبدو الإدارة موجودة فوق اللعبة
الاجتماعية. ويكون القانون أحسن تعبير عن التفوق الإداري، بحيث تصبح له دلالات
رمزية مهمة إلى جانب مدلوله المتعارف عليه. وتتمثل على الخصوص في إبراز رمزية عدم
المساواة بين من له إمكانية تطبيق القانون ومن هم ملزمين بالخضوع له21. كما أن
الطريقة التي تستعمل بها الإدارة القواعد القانونية التي أصبحت تشكل عرقلة شكلية والتزاما
يقع على عاتق الذين وضعوها. الأمر الذي يفرض تجاوز هذه الضوابط كيفما كان نوعها
حتی لا تثقل كاهل المرتفقين. ويظهر هذا الاتجاه أحيانا بطريقة إرادية ومقصودة. ويعتبر
تطوير التشريعات بواسطة المذكرات والمراسلات والدوريات مظهرا جلياله، بحيث تعتبر
كوسيلة فعالة لتبني أي تقنين جديد. بل وأكثر من ذلك فهي تسمح بالتراجع بسهولة عن
التنظيمات السابقة. وتهدف هذه التشريعات الغير مباشرة أساسا إلى إخفاء الضغط
القانوني الذي قد يسبب مضايقة للإدارة. إلا أن البحث عن الفعالية ضمن هذا الإطار
قد لا يدفع بالضرورة في اتجاه توضيح القرارات الإدارية أو إقامة أي حوار مع
المرتفقين، فالوضوح أو أي سياسة أخرى للعلاقات العامة ليس لها أي معنى في ظل مثل
هذا التوجه العام. والمثال الذي يمكن استحضاره في الإدارة العمومية المغربية بهذا
الخصوص هو العدد الهائل من الاستمارات والمطبوعات سواء الالكترونية أو الورقية
التي سيستخدمها عادة المواطن كان موظفا أو مرتفقا. ومن ثم ومن خلال هذه المسالك
تحدث الإدارة مسافة أكثر اتساعا بينها وبين مواطنيها.
تبدو هذه المسافة
أكثر وضوحا عندما يتعلق الأمر بمعالجة الطلبات الواردة من المرتفقين، حيث يؤدي
الرجوع إلى المساطر بشأنها وتطبيقها تطبيقا صارما وجامدا إلى تفادي أي اتصال أو
نقاش قد يرغب فيه المعني بالأمر. الشيء الذي يجعل المواطن في وضعية تبعية، تفرض
عليه الإدارة منطقها وقواعدها واختياراتها. وتعمل على تحديد نوعية الحوار والتواصل
معه. وتفسر هذه الوظيفة بعض الخصائص المهمة والمتعلقة بالأسلوب الإداري الذي يغلب
عليه الاتجاه نحو التمسك بالشكليات اللفظية المعبرة عن هالة وجلالة السلطات
العمومية.
ولخلق التباعد بينها
وبين مواطنيها تستعمل الإدارة العامل الزمني لضمان حمايتها واستقلاليتها في اتخاذ
المبادرات التي تريدها في منأى عن أي تدخل من الخارج. فبفرض إيقاعها على المرتفقين
وباشتغالها في بطء رزين ومتعقل، فهي تحاول الاحتماء من أي ضغط خارجي وضمان هدوئها
بالرغم مما يسفر عن ذلك من تأخير في حصول المرتفقين على مطالبهم، نظرا لطول الوقت
الذي تستغرقه الإجراءات الإدارية من جهة وتعقيدها من جهة
أخرى.
يتمثل هذا التعقيد
أحيانا في عمليات المراجعة والتدقيق غير الضروريتين واشتراط توقيعات وهوامش والتي
غالبا ما لا يكون لها علاقة بجوهر المعاملة، وتكرار مرور طالب الخدمة على الادارة
مرات عديدة لاستكمال الإجراءات مما يؤدي إلى مضايقة المستفيدين من تلك الخدمات ويولد
لديهم انطباعا سلبيا عن الإدارة
ومن جهة ثانية،
تتجلى مظاهر التعقيد الإداري والإجراءات الشكلية ليس فقط في تعدد مصادر القواعد
القانونية والإجراءات و المساطر بل أيضا في تعدد الجهات التي تصدر هذه القواعد.
فالأمر لا يقتصر على اتخاذ القرارات من هيئة واحدة وإنما من طرف هيئات عديدة موزعا
توزيعا غير متكافئ بين المرافق الإدارية المركزية والمحلية. إذ أضحت عملية صنع
القرار الإداري تواجه مجموعة من الصعوبات نتيجة لتعدد مراكز اتخاذ القرار وتشتت
المصالح المتداخلة في المسطرة الواحدة، وغياب الوسائل الكفيلة بتنفيذ هذا القرار.
وهذا ما تم التأكيد عليه في الخطاب الملكي السامي من خلال العبارة التالية: "
إنا لنعي أن هناك جملة من المعوقات البنيوية في مراكز القرار، والهوة بين روح
القوانين ومنطوقها مما ينعكس سلبا على تطبيقها والبطء في الانجاز دون وجود ضوابط
قانونية ضد هذه الممارسات ... " ويمكن إرجاع هذا التعدد في اتخاذ القرارات
إلى الأساليب التقليدية والقديمة لمعالجة هموم المواطنين عوض الاعتماد على
الأساليب الحديثة والممنهجة في دراسة المشاكل والوصول إلى اختيار أفضل الوسائل
المطروحة. والقرار الإداري هو عمل يقوم على أساس التعاون والتنسيق، الأمر الذي
يفرض أن يعرف كل مسؤول حدود وظيفته الرئيسية، وحدود سلطاته، واختصاصاته، لأن أي
غموض ينتهي إلى الاحتكاك والاعتداء على الاختصاصات، خاصة فيما يتعلق ببعض القطاعات
التي تتقارب صلاحيتها أو تتشابه أو في حالات أخرى ينعدم فيها تحديد اختصاصات بعض
المصالح. مما قد تكون له انعكاسات على مصالح المواطنين، بشكل يصعب معه في كثير من
الحالات تعرفهم على الجهة الإدارية المختصة التي عليهم التعامل معها. في هذه
الحالة يكونون مطالبين بقبول مختلف الشكليات والمساطر المقررة بمبادرة من الإدارة
الأجل الاستفادة من الخدمات العمومية التي تقدمها.
الفقرة الثانية: المقاربة الجديدة لتبسيط المساطر.
إذا كان التبسيط
الإداري يستهدف، كأحد المحاور الاستراتيجية المعتمدة في مجال تحديث الإدارة وتطويرها،
محاربة النمطية والشكلية وبطء الإجراءات وتطهير المسالك من كل الشوائب وتحقيق
السرعة المطلوبة في إنجاز بعض العمليات الإدارية، فإن مجال توسيعه أضحى ضروريا و
ذلك من خلال وضع آليات جديدة تقوم على توحيد المساطر و الإجراءات وتدوينها في
نماذج إدارية و العمل على تنسيق هاته الإجراءات الأمر الذي يسهل على المرتفقين و
كذا العاملين بالإدارة الرجوع إليها كلما اقتضت الضرورة.
فبخصوص المبادئ
العامة التي وضعها مشروع القانون المتعلق بتبسيط المساطر والإجراءات الإدارية رقم
55.19 يتعين على الإدارة والمرتفق التقيد بها وتطبيقها، فهي تتمثل في عشرة مبادئ
تتعلق بالثقة بين الإدارة والمرتفق؛ وشفافية المساطر والإجراءات المتعلقة
بالقرارات الإدارية؛ وتبسيط المساطر والإجراءات المتعلقة بالقرارات الإدارية؛
وتحديد الآجال القصوى لدراسة طلبات المرتفقين المتعلقة بالقرارات الإدارية
ومعالجتها والرد عليها من قبل الإدارة؛ واعتبار سكوت الإدارة على طلبات المرتفقين
المتعلقة بالقرارات الإدارية، بعد انصرام الأجل المحدد بمثابة موافقة، وذلك وفق
الشروط المنصوص عليها في مشروع القانون.