المسطرة الغيابية و إشكالاتها القضائية
تقديم:
عادة
ما يقع الخلط بين المسطرة الغيابية في المادة الجنائية والقرار الغيابي الصادر عن
الغرفة الجنحية لمحكمة الاستئناف، إذ أن عدم حضور المتهم أمام غرفة الجنايات يؤدي
إلى تطبيق المسطرة الغيابية قبل الفصل في الدعوى العمومية أو المدنية، في حين أن
عدم حضور المتهم في الجنح التأديبية المستأنفة لا يمنع الغرفة الجنحية الاستئنافية
من الفصل في الموضوع بقرار يوصف معه بالقرار الغيابي، في حين أن هذا الوصف وإن لحق
القرار الجنائي تجاوزا، إلا أنه لا يرتب نفس الآثار.
وسنتناول
في هذه المقالة أهم قواعد المسطرة الغيابية (فقرة أولى)، ثم الإشكالات العملية
والقضائية التي يطرحها القرار الجنائي الصادر وفق المسطرة الغيابية في علاقته مع
القرار الجنحي الغيابي (فقرة ثانية).
الفقرة الأولى : أهم قواعد المسطرة الغيابية
لا
تطبق المسطرة الغيابية إلا في مواجهة المتهم المتابع جنائيا أمام غرفة الجنايات
الابتدائية أو الاستئنافية من أجل جناية على الأقل، وتمت الإحالة عليها من طرف
الوكيل العام للملك ، أو من طرف قاضي التحقيق بعد إصداره للأمر بالإحالة، أو من
طرف الغرفة الجنحية بوصفها درجة ثانية للتحقيق في حالة إلغاء القرار الكلي أو
الجزئي للأمر بعدم المتابعة المتخذة من طرف قاضي التحقيق.
والثابت
أن قيام المسطرة الجنائية على الحضور الإجباري للشخص المتابع يفسر بالطبيعة
الاتهامية لمرحلة الحكم، وبأن التحقيق النهائي يباشر أمام قضاء الحكم. ويترتب عن
عدم حضور المتهم أمام غرفة الجنايات، اعتباره في حكم العاق والعاصي للقانون لكونه
يرفض الامتثال للعدالة قصد محاكمته.
ويمكن
هذا الوضع من خضوع المتهم لمسطرة سريعة تؤدي إلى:
· أولا: حرمانه مؤقتا من الضمانات المسطرية
الأساسية جزاء له عن عدم الحضور، وكان الأولى أن تتقرر وسائل أخرى غير حرمانه من
حقوق الدفاع. :
· ثانيا: عدم تمكين المتهم المتغيب من مؤازرة
المحامي أثناء المحاكمة والاستماع إليه والإدلاء بمذكراته المكتوبة مما يشكل خرقا
لحقوق الدفاع . :
· ثالثا: عادة ما تؤدي المحاكمة وفقا للمسطرة
الغيابية إلى إدانة المتهم بالعقوبة الجنائية لوجودقرينة الإدانة مادام أن القانون
يقرر حكما وصفه بالعاصي للقانون.
· رابعا: إذ يطرح الفقه التساؤل حول أحقية المتهم
في الاتصال بمحاميه حتى في مرحلة البحث التمهيدي بشروط طيلة التحقيق ويمنع من
المؤازرة في قاعة الجلسات بدعوى عدم حضور المتهم.
· خامسا: لا يمكن المساس بحقوق المتهم المتغيب
بدعوى أن العقوبة غير قابلة للتنفيذ، وإنما يجب تقوية قرينة البراءة.
· سادسا: لا يقبل القرار الجنائي الصادر بناء على
مسطرة غيابية أو ما يعبر عنه في قضاء محكمة النقض تجاوزا بالحكم الجنائي الغيابي
لا التعرض ولا الطعن بالاستئناف ولا الطعن بالنقض من طرف المتهم المتغيب، في حين
أن الطعن بالاستئناف مقرر للمطالب بالحق المدني من جهة وللوكيل العام للملك في
الدعوى العمومية مما سيخلق مجموعة من الإشكالات العملية.
· ثامنا: ولا يعد طعنا في الحكم الجنائي الغيابي
بسقوط الحكم والاجراءات الناجمة عن ظهور المتهم المتابع وإعادة محاكمته من جديد،
ويمكن اعتبار سقوط الحكم الجنائي بمثابة عدول عنه، في حين يعتبره البعض بالحكم
الجنائي الموقوف على شرط فاسخ.
· تاسعا: يتوقف سقوط الحكم الجنائي والعقوبة
المقررة فيه على تقديم المحكوم عليه نفسه إلى السجن أو إلقاء القبض عليه قبل سقوط
أمد التقادم الجنائي، والحال أن أمد الطعون لا يمكنه أن يمتد إلى حين تقادم
العقوبة. ولا يتصور منطقيا، أن يوضع المرء في السجن من أجل الاستفادة من سقوط
الحكم الجنائي وإعادة محاكمته.
· عاشرا: تطبق المسطرة الغيابية بالنسبة للجنايات
التي خضعت للتحقيق إما إجباريا أو اختياريا أو التي أحيلت أمام الغرفة الجنائية
الابتدائية وبدون سلوك مسطرة التحقيق الإعدادي، ويصبح قضاة الحكم أمام محاضر
الضابطة القضائية منجزة على ذمة القضية دون تحقيق .
· إحدى عشر: بعد إعادة المحاكمة، يحق للغرفة
الجنائية أن تكتفي بتلاوة شهادة الشهود المستمع إليهم أو الذين تعذر الاستماع
إليهم، ونفس الحكم يسري بالنسبة للمتهمين المتابعين بنفس الجناية.
· اثني عشر: يمنع على المتهم المحكوم عليه بمقتضی
مسطرة غيابية رفع أية مسطرة قضائية أمام القضاء.
· ثلاثة عشر: يعد أمر رئيس غرفة الجنايات بالمسطرة
الغيابية بمثابة أمر بإلقاء القبض على المتهم لأنه في حكم الفار من العدالة.
· أربعة عشر: يعلق الإجراء بالمسطرة الغيابية في
آخر مسكن للمتهم.
· خمسة
عشر: في حالة إدانة المتهم، تبقى أمواله تحث العقل والحجز تلقائيا، ولا يصرف منها إلا
نفقات من يجب شرعا.
· ستة عشر: بعد نشر ملخص القرار بسعي من النيابة
العامة في الجريدة الرسمية، يجرد المتهم من الحقوق الوطنية بقوة القانون..
الفقرة الثانية : الإشكالات القضائية للقرار الجنائي الصادر وفق المسطرة الغيابية
يمكن
أن نجمل الإشكالات القضائية التي تطرحها المسطرة الغيابية في علاقتها بوصف القرار
بالغيابي فيما يلي:
جاء في
قرار المحكمة النقض ما يلي: « في شان وسيلة النقض الأولى المستدل بها المتخذة من
الخرق الجوهري للقانون:
ذلك أن
غرفة الجنايات الإستئنافية لما وصفت قرارها المطعون فيه بالغيابي دون سلوك المسطرة
الغيابية المنصوص عليها في مقتضيات المادة 443 من قانون المسطرة الجنائية تكون قد
خرقت مقتضيات المادة المذكورة مما يعرض قرارها للنقض والإبطال.
حيث
إنه بمقتضى المادة 443 من قانون المسطرة الجنائية المحتج بها فإن رئيس غرفة
الجنايات أو المستشار المنتدب من طرفه يصدر أمرا بإجراء المسطرة الغيابية إذا تعذر
القبض على المتهم بعد الإحالة أو إذا لاذ بالفرار بعد القبض عليه أو إذا كان في
حالة الإفراج المؤقت أو الوضع تحت المراقبة القضائية، ولم يستجب إلى الاستدعاء
بالمثول المسلم إليه.
ويستفاد
من النص المذكور أن هذه المقتضيات إنما تطبق أمام غرفة الجنايات الابتدائية والحال
أن القضية تتعلق بقرار استئنافي صادر عن غرفة الجنايات الإستئنافية مما لم تخرق
معه المحكمة نص المادة المذكورة والوسيلة فيما أثارته خلاف الواقع فهي غير مقبولة.
»ا
يتضح
من هذا القرار الجنائي أن المتهم قد حضر أمام غرفة الجنايات الابتدائية والتي قضت
ببراءته ابتدائيا، وطعن الوكيل العام، وقضت غرفة الاستئناف الجنائية بتأيد القرار
الجنائي الابتدائي دون أن يكون المتهم حاضرا.
وهذا
القرار يدفعنا إلى طرح السؤال التالي : هل عدم تطبيق المسطرة الغيابية من طرف غرفة
الجنايات الاستئنافية موجب لإعمال قواعد الحضور والغياب المقررة في القضايا
الجنحية، وبالتالي يصبح القرار الجنائي «الغيابي» مما يقبل التعرض أمام غرفة
الجنايات الاستئنافية في حين يمنع أمام غرفة الجنايات الابتدائية؟.
يظهر
أن موقف محكمة النقض بخصوص هذه النقطة سمته عدم الوضوح، إذ قضى بعدم قبول الطعن
بالنقض في قرار غرفة الجنايات الاستئنافية لأن قرارها صدر غيابيا بعد استنفاذ
المسطرة الغيابية، مما يفيد قابلية تطبيق المسطرة أمام غرفة هذه الأخيرة.
جاء في
قرار المحكمة النقض ما يلي:
« وحيث
إن القرار المطعون فيه الصادر عن غرفة الجنايات الاستئنافية قضى غيابيا بإدانة
الطاعن من أجل جناية إخفاء شيء متحصل من جناية وذلك بعد إجراء المسطرة الغيابية في
حقه الأمر الذي يتعين معه التصريح بعدم قبول الطلب ».
وجاء
في قرار آخر ما يلي: « بناء على المادة 451 من ق. م. الجنائية =حيث إنه عملا
بالمادة 451 المذكورة فإنه لا يقبل الطعن في القرار الصادر غيابيا بعد الأمر
بإجراء المسطرة الغيابية في الجنايات إلا من النيابة العامة ومن الطرف المدني فيما
يتعلق بحقوقه.
وحيث
يتجلی من تنصيصات القرار المطعون فيه أنه صدر غيابيا في حق المتهم الطاعن بعد
الأمر بإجراء المسطرة الغيابية في حقه وإنجازها طبقا للفصول 444 إلى 450 ق م ج
وبذلك فهو غير قابل للطعن بالنقض .»
ثانيا:
هل يحق لغرفة الجنايات الاستئنافية أن تنظر في استئناف النيابة العامة في القرار الجنائي
الابتدائي ؟
جاء في قرار المحكمة النقض ما يلي:
« في
شأن الفرع الثاني من نفس الوسيلة المستمدة من خرق الفصلين 427 و457 من ق م ج، ذلك
أن الثابت أن النيابة العامة استأنفت قرار غرفة الجنايات الابتدائي إلا أن القرار
المطعون فيه لا يتضمن ما يفيد تقديم وسائل استئنافها سيما وأنها طرفا رئيسيا في
الدعوى العمومية.
حيث أن
المحكمة المصدرة للقرار ناقشت القضية من جديد بناء على استئناف النيابة العامة
والطرف المدني، وفي هذا الإطار انتهت إلى عدم وجود أي وسيلة إثبات لهذه المرحلة
الإدانة المطلوب، وبذلك أخذت بعين الاعتبار استئناف النيابة العامة للدعوى
العمومية، والطاعن بوصفه مطالبا بالحق المدني إنما ينحصر طلب نقضه في المقتضيات
المدنية. وما أثير بالوسيلة علاوة على ذلك يتعلق بحق غيره ولا يتعلق بخرق أخر
مسطريا به مما يكون معه الفرع غير مرتكز على أساس .
في شأن
الوسيلة الثانية المتخذة من عدم الارتكاز على أساس قانوني وانعدام التعليل ذلك أن
القرار اعتمد فيما قضی به من براءة المطلوب على إنكاره للمنسوب إليه مع أنه لم
يحضر أمام المحكمة ومن جهة أخرى لم تأخذ المحكمة بتصريحات الشهود أمام المحكمة
واستبعدت شهادة بعضهم لعدم لمسه الأوراق النقدية.
حيث إن
ما أشير بالوسيلة يتعلق بالمقتضيات الجنائية والتي ليس للمطالب بالحق المدني
مناقشتها وفضلا على ذلك فان المحكمة استبعدت شهادة الشاهد المستمع إليه لتناقضها
مع أقوال المطالب بالحق المدني حول المس وتفحيص الأوراق النقدية وهو ما يدخل في
صميم سلطتها التقريرية المخولة لها في تقييم شهادة الشهود وتعتبر مناقشة المحكمة
في هذه العلل مجادلة في قناعتها مما تعتبر معه الوسيلة غير ذات أساس .»
ذهب
قضاء محكمة النقض إلى وصف القرار الجنائي الصادر عن غرفة الجنايات بالغيابي
والصادر في إطار المسطرة الغيابية. وتكمن خصوصية هذا القرار الجنائي الغيابي حسب
قضاء النقض في عدم قابليته للطعن بالتعرض.
جاء في
قرار المحكمة النقض ما يلي:
« وحيث من جهة أولى، فلئن كان ما ذهبت إليه المحكمة من عدم قبول الحكم الجنائي الغيابي للتعرض صحيحا قانونا، إلا أنه - بوصفه ذلك – يسقط بقوة القانون بحضور المحكوم عليه (سواء سلم نفسه أو قبض عليه) طبقا لمقتضيات المادة 453 من قانون المسطرة الجنائية. الأمر الذي كان يتعين معه على المحكمة - وهي تثبت في التعرض على حكم جنائي غيابي صدر في المادة الجنائية - أن تعاين كذلك أن ذلك الحكم قد سقط قانونا بمثول المحكوم عليه فيه أمامها، ثم تتصدى في حضوره لمناقشة الموضوع المعروض عليها في نطاق القانون، واحترام ضمانات المحاكمة العادلة.
وحيث من جهة ثانية، فما دام نظام الطعن بالتعرض لا يسري على الأحكام الجنائية الغيابية ، فليس من شأن تعرض العارض خطأ على الحكم المذكور، وحالته ما ذكر، أن يطرح موضوع القضية أمام المحكمة بما تنقتضي به إجراءاتها ، طالما أن الحكم الجنائي الغيابي يسقط بقوة القانون إذا حضر المحكوم عليه.
وفي
حين أن القرار الجنحي الغيابي يقبل الطعن بالتعرض إذا صدر غيابيا . جاء في قرار
المحكمة النقض ما يلي:
« حيث إن ما للأحكام من صفة الصدور حضوريا أو غيابيا أو بمثابة الحضوري أمر يحدده القانون ولذا فإن الوصف الذي تعطيه المحكمة لحكمها يخضع لرقابة المجلس الأعلى.
وحيث يتجلی من تنصيصات القرار المطعون فيه أن العارضة لم تحضر رغم إشعارها فوصفت المحكمة حكمها بأنه نهائي في حقها دون الإشارة إلى عدم إدلائها بعذر مشروع وهذا مخالف للقانون إذ أن ما ذكرته المحكمة من كونها أشعرت العارضة ولم تحضر يجعل الحكم في حقها غيابيا وبالتالي غير نهائي عملا بمقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 314 من قانون المسطرة الجنائية.
وحيث أن الحكم المطعون فيه صدر في الحقيقة غيابيا بتاريخ 106-03-2008 بالنسبة للعارض فكان إذن قابلا للطعن بطريق التعرض لمضي عشرة أيام من يوم الإعلام به عملا بالفصل 393 من قانون المسطرة الجنائية وأن من شأن الوصف الخاطىء أن يخلق اللبس لدى الطاعن في معرفة طريق الطعن الأمر الذي تعذر معه تطبيق الفقرة الأخيرة من المادة 527 من ق م ج.
وحيث أن طلب النقض قدم بتاريخ 17-03-2008 أي في وقت لم يكن الحكم أصبح فيه نهائيا . »
و يذهب
قضاء محكمة النقض إلى رد الطعن بالنقض ضد القرار الجنحي الغيابي إن وقع الوصف من
طرف محكمة الاستئناف خطأ. إذ لا يقبل الطعن بالنقض والحال أن الطعن بالتعرض لم
يستنفذ بعد.)
جاء في
قرار المحكمة النقض ما يلي:
« حيث
إن ما للأحكام صفة الصدور حضوريا وغيابيا أو بمثابة الحضوري أمر يحدده القانون
ولذا فإن الوصف الذي تعطيه المحكمة لحكمها يخضع لرقابة المجلس الأعلى.
وحيث
يتجلی من تنصيصات القرار المطعون فيه أن العارض قد استدعي فلم يحضر رغم توصله
بالاستدعاء، فوصفت المحكمة حكمها بأنه نهائي في حقه دون أن تنص على العذر المشروع
وهذا مخالف للقانون إذ أن ما ذكرته المحكمة من كونها استدعت العارض ولم يحضر ولم
يشر إلى العذر المبرر يجعل الحكم في حقه غيابيا وبالتالي غير نهائي عملا بمقتضيات
الفقرة الأولى من الفصل 314 من قانون المسطرة الجنائية.
وحيث
إنه بمقتضى الفصل 521 من نفس القانون فإنه لا يصح أن يطعن عن طريق المطالبة بالنقض
إلا في الأحكام أو الأوامر القضائية الصادرة بصفة نهائية.
وحيث إن الحكم المطعون فيه صدر في الحقيقة غيابيا بتاريخ 18-06-06 بالنسبة للعارض فكان إذن قابلا للطعن بطريقة التعرض قبل مضي عشرة أيام من يوم الإعلام به عملا بالفصل 393 من قانون المسطرة الجنائية. وأن من شأن الوصف الخاطىء أن يخلق لبسا لدى الطاعن المعرفة طريق الطعن التي عليه أن يسلكها.
وحيث إن طلب النقض قدم بتاريخ 27-10-06 أي في وقت لم يكن الحكم أصبح فيه نهائيا .