مقدمة عامة
تحتل الثروة العقارية أهمية كبرى في اقتصاد كل
بلد، ونظرا لهذه الأهمية الجات مختلف دول العالم إلى وضع الإطار القانوني المحض
لتنظيم هذه الملكية باعتبارها مالا أجمعت أغلب الملل على حفظها ضمن الضروريات
الخمس.
ويعد النظام العقاري المغربي نظاما مزدوجا في
هيكله، ومتنوعا في طبيعته، فإلى جانب العقار غير المحفظ والمستمد من مبادئ الشريعة
الإسلامية وبعض قواعد القانون المدني، نجد النظام الخاص بالعقارات المحفظة الذي
يشكل نموذجا للإشهار العيني:.
وهكذا فقد تم إرساء دعائم الإشهار العيني بالمغرب بواسطة ظهير 12غشت1913 "9 رمضان 1331" المتعلق بنظام التحفيظ العقاري، والذي أدخلت عليه عدة تعديلات أهمها: التعديل الذي كان بواسطة ظهير 24 شتنبر 1917، و24 غشت 1954، و تلته بعد ذلك مجموعة من التشريعات نذكر منها: ظهير فاتح يونيو1915...
لقد شكلت هذه النصوص الأساس القانوني للتشريع العقاري بالمغرب، بالإضافة إلى نصوص أخرى تتعلق ببعض التشريعات والمساطر الخاصة التي يخضع لها العقار سواء المحفظ، أو في طور التحفيظ، والتي و إن كان بعضها قد صدر في عهد الحماية كالقانون المنظم لمسطرة التحديد الإداري والملكية المشتركة، فإن البعض الآخر صدر أثناء الاستقلال كما هو الشأن بالنسبة للظهير المنظم لضم الأراضي الفلاحية وقانون التعميرة، والقوانين المتعلقة بمراقبة العمليات العقارية...
وبناء على ذلك، فإن نظام التحفيظ العقاري هو من أهم الوسائل التي ابتدعها الفكر القانوني والتي ساهمت بشكل كبير في إدماج العقار في التنمية، نظرا لأن عملية التحفيظ تمكن من ضمان الاستقرار، وثبات الملكية العقارية بشكل لا يدع مجالا للمنازعة و الاضطرابا، كما أن مؤسسات التمويل تشترط أن يكون العقار المعني بالاستثمار محفظا، لأن العقار المحفظ يضمن للدائن حق استيفاء دينه في موعد استحقاقه نظرا لتمتعه بحق الأولوية والتتبعه.
أضف إلى ذلك، فإن العقار المحفظ يعتبر أساس وجود مجموعة من الحقوق العينية أبرزها حق الملكية، فمن له هذا الحق على العقار كان له حق استعماله واستغلاله وحق التصرف فيه. .
وعليه، فإذا كان الهدف من وضع القانون العقاري يتمثل في إرساء دعائم صلبة للملكية العقارية، فإنه أصبح في ظل تعدد النصوص قانونا متشعبا بل ومعقدا، كما أن بعض النصوص تتسم بالغموض أحيانا والنقص أحيانا أخرى، مما أثر بشكل كبير على الاجتهادات القضائية الصادرة بشأن التنظيم القانوني للعقار المحفظ، أو في طور التحفيظ منذ السنوات الأولى لنظام الحماية، كما أثر على مواقف الفقه الذي تضاربت آرائه في مناسبات عدة بخصوص التنظيم القانوني لبعض المؤسسات القانونية التي تحكم نظام التحفيظ العقاري بشقيه.
لذلك، فهل استطاع التشريع العقاري المغربي مواكبة الظروف والمستجدات الراهنة؟ وهل استطاع القضاء والفقه معا العمل على تتبع التطور الحاصل في الميدان العقاري؟. .
قبل الإجابة على الإشكال المطروح، لابد من الاعتراف بان المغرب يعتبر من الدول التي تسعى إلى تطوير قوانينها، وذلك بهدف إعطاء الملكية العقارية أكثر ما يمكن من الاستقرار والضمان، كما أن الفقه يساهم بدوره في هذا التطور، فهو مدعو إلى تتبع ما يصدر عن المشرع من قوانين ودراسة ما يصدر عن القضاء من اجتهادات، بهدف خلق تحليل منطقي وسليم لمختلف هذه الاجتهادات.
أما الاجتهاد القضائي، فلا يقل أهمية عن دور الفقه، فهو يعمل على إتمام الثغرات التي يعاني منها من القانون وتفسير ما هو غامض، ومن أجل إبراز دور القضاء في مسطرة التحفيظ نرى من الملائم التعرض ولو بإيجاز لمفهوم الاجتهاد القضائي.
- مفهوم الاجتهاد القضائيي.
إن عبارة الاجتهاد المستعملة في اللغة الفرنسية تعود إلى أصل لاتيني " JURIS - PREDENTEA " وتعني علم المعرفة، ذلك أن "JURIS" تعني القانون، في حين" PREDENTEIAتعني المعرفة أي العلم، وبذلك كان يطلق قديما على الاجتهاد القضائي العلم التطبيقي للقانون، كما استعمله الرومانيون لدراسة القانون من الناحية العملية والنظرية، فكانوا يطلقون على رجال القانون اسم "الحكماء"
وللاجتهاد القضائي معنى يختلف باختلاف النظم السائدة عالميا، ففي النظام الانجليزي فهو يعتبر مصدرا رسميا للقاعدة القانونية لا يقل أهمية عن التشريع، فحكم أية محكمة في انجلترا يلزم قانونيا المحكمة التي أصدرته بإتباعه في القضايا المماثلة التي ترفع إليها فيما بعد، وكذلك المحاكم الأخرى الأدنى منها درجة، حيث لا يجب أن تستقر المحاكم وتتخذ كلمتها على أمر معين حتى تصير قانونا وإنما يكفي ، لذلك صدور حكم أو قرار واحد، وهكذا فأحكام المحكمة الابتدائية تكون ملزمة لها، وقرارات محكمة الاستئناف تكون واجبة التطبيق من طرفها وكذا من المحاكم الأدنى منها درجة، ونفس الأمر كذلك بالنسبة لقرارات المحاكم العليا، ولا يمكن العدول عن ذلك إلا بسن قانون يقضي بذلك، وبناء على ذلك فالقاعدة القانونية في هذا البلد تتكون في جزء منها من الاجتهاد القضائي وفي جزء آخر من التشريع والعرف.
ومن ثم أصبح كل حكم يشكل "سابقة قضائية" يتقيد بها القاضي ويعتمدها في قضايا مماثلة، وبهذه الكيفية اعتبر القانون الانجليزي من صنع القضاء.
أما في فرنسا فللاجتهاد القضائي مفهوم يختلف كثيرا عن المفهوم السابق الذكر، إذ هو استقرار المحاكم ومحكمة النقض على أمر معين، ويشكل فقط مصدرا من المصادر المادية للقانون تعتمد عليه السلطة التشريعية في إصدار القوانين حسب القواعد القانونية، حيث يرجع إليها لتحديد معنى القاعدة و تفسيرها، وذلك لأن هذه الأخيرة لا تصبح كذلك إلا إذا توفر لها عنصر الإلزام الذي يضفيه عليه المصدر الرسمي وهو التشريع، وبالتالي يمكن القول بأن للقضاء دور بالغ الأهمية في خلق القانون وتطبيقه وتفسيره، لكنه لا يصل إلى خلق القاعدة القانونية الملزمة، وإنما يعتبر مصدر استئناس واسترشاد لفهم النصوص القانونية وإتباعه أدبيا في المحاكم الأخرى. .
اما الاجتهاد القضائي في القانون المغربي لا يختلف عن نظيره الفرنسي، فلقد عرفه الأستاذ موسی عبود بأنه "مجموع الحلول القانونية التي تستنبطها المحاكم بمناسبة فصلها في المنازعات المعروضة عليها"، في حين اعتبره البعضه بانه هو محرك القاعدة القانونية، فهو الذي يحاول خلق الموازنة بين مضمون النص ومتطلبات الواقع، وذلك بما يخدم مصلحة المجتمع.
أما الأستاذ بلهاشمي التسولية فقد اعتبر الاجتهاد القضائي بأنه كلمة عامة، فهي لا يقصد بها ما تقرره محكمة أدني أو أعلى، أو ما يصدره المجلس الأعلى بصفته يسهر على التطبيق السليم للقانون، وإنما المراد هو كل ما يصدر عن تلك الجهات من قرارات وأحكام يتأكد منها أنها طبقت القواعد القانونية تطبيقا سليما، فوضحت معالمها وفق مراميها وغاياتها التي قصدها المشرع حين وضعها، خصوصا إذا كان صادرا عن أعلى هيأة قضائية وهي المجلس الأعلى، وليس معناه سن قواعد جديدة وإنما تفسيرها تفسيرا سليما وتطويرها إلى ما هو أفضل.
إن هذه الورقة التعريفية للاجتهاد القضائي تدفعنا إلى القول بأن القضاء إذا كانت له مكانته في المادة المدنية، فان مركزه لا يقل أهمية في المادة العقارية وذلك لعدة أسباب:
. قدم النص القانوني: إن مرور ستة وتسعون سنة على العمل بنظام التحفيظ العقاري بالمغرب - على الرغم من المزايا التي لا زال يحتفظ بها والتي لا يمكن تجاهلها. جعل البعض من مقتضياته غير ملائمة مع التطورات التي تعرفها المعاملات العقارية.
- الأهمية التي يكتسيها العقار كمحرك أساسي للاستثمار، وهو ما يفسر كثرة المتدخلين في هذا الميدان انطلاقا من الدولة وبعض المؤسسات العمومية.
. ضعف النص القانوني: خاصة ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري مما يستلزم من القضاء العمل على إرساء اجتهادات قضائية قارة وموحدة.
- الأهمية التي يكتسيها العقار كمحرك أساسي للاستثمار، وهو ما يفسر كثرة المتدخلين في هذا الميدان انطلاقا من الدولة وبعض المؤسسات العمومية
اهمية الموضوع وخطة البحث.
يمكن القول بأن ظهير التحفيظ العقاري يمثل أرقى أشكال الحماية التشريعية للمعاملات العقارية، لما جاء به من مقتضيات وإجراءات تسعى إلى توطيد الملكية العقارية على أسس متينة، الأمر الذي جعل منه الركيزة الأساسية التي يقوم عليها الائتمان العقاري والدعامة الأساسية لاستقرار الملكية العقارية في أغلب القوانين.
أضف إلى ذلك، فقد أضافت التجربة العملية مزايا عديدة لهذا النظام ، الشيء الذي جعل الاحتفاظ به ضرورة لا مناص منها وجعل تعميم مزاياه من الأهداف الأساسية، غير أن التطور الذي عرفته بلادنا في مختلف الميادين كشف عن جمود مقتضياته حيث لم تعد ملائمة للواقع الراهن، كما كشف عن ضعف في استجابة بعض المقتضيات الأخرى للحاجات التي فرضها هذا التطور على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية.
ولما كان من المؤكد أن استمرار هذه الوضعية سيؤثر سلبا على تطور عدة قطاعات حيوية في الاقتصاد الوطني، فقد تمت مراجعة مقتضيات نظام التحفيظ العقاري بهدف جعله أكثر ملائمة لمستوى التطور الحالي وأكثر قدرة على مسايرة ركبه، لذلك فقد حاول مشروع قانون التحفيظ العقاري تكريس مجموعة من المقتضيات تنم عن نية المشرع في تجاوز بعض الثغرات، إلا أن ذلك لم يمس بشكل عام المبادئ الهامة التي يقوم عليها نظام التحفيظ العقاري، كما لم يمس أيضا بعض المقتضيات التي ظل تنظيمها غامضا حتى في ظل هذا المشروع كما سنرى لا حقا.
لكل هذه الأسباب، ارتأيت أن أساهم بدوري في بحث موضوع يكتسي أهمية بالغة، وذلك بهدف الوقوف على أهم الإشكاليات التي تطرحها تطبيق مقتضيات ظهير 12 غشت 1913.
هذا وان كانت نظرتي الأولية للموضوع اتجهت نحو معالجة الإشكاليات التي يطرحها.ظت.ع. كقانون وضعه مشرع أجنبي، فانه بدا لي ولأول وهلة بأن هناك نوعا من التداخل بين مقتضيات هذا الظهير وقانون المسطرة المدنية، مما فرض
علي ضرورة الخوض في تحديد أوجه الاختلاف والتشابه بين القانونين مع محاولة إيجاد نوع من الخصوصية بالنسبة لظهير التحفيظ العقاري، مما سيجعل هذه الدراسة تنصب منذ البداية على بحث إشكالية تطبيق ظت. ع، هذا الأخير وكما سنرى وجدت فيه مجموعة من الثغرات والتي خلقت نوعا من التضارب سواء على مستوى الاجتهاد القضائي أو على مستوى الفقه .
كل هذا سيتطلب مني التعامل مع النص القانوني وتأصيله قانونيا وفقها، والاعتماد بشكل واسع على الاجتهاد القضائي المنشور وغير المنشور، كما يتطلب البحث ضرورة الوقوف على أهمية الاجتهاد القضائي وتحديد مكانته في مسطرة التحفيظ، وذلك من خلال استعراض مجموعة من الآراء الفقهية سواء تلك التي ...الاجتهاد القضائي أو على مستوى الفقه .
كل هذا سيتطلب مني التعامل مع النص القانوني وتأصيله قانونيا وفقهيا، والاعتماد بشكل واسع على الاجتهاد القضائي المنشور وغير المنشور، كما يتطلب البحث ضرورة الوقوف على أهمية الاجتهاد القضائي وتحديد مكانته في مسطرة التحفيظ، وذلك من خلال استعراض مجموعة من الآراء الفقهية سواء تلك التي تناصر فكرة تولي جهاز القضاء اختصاص البث في مطلب التحفيظ، أو تلك التي ترى في المحافظ العقاري الجهاز الأولى بالنظر في ملف التحفيظ .
كما يفرض علي البحث تحديد اختصاصات القاضي العقاري ومدی تدخله في مسطرة التحفيظ، سواء أثناء تقديم المطلب أو أثناء وجود تعرضات، هذا مع ضرورة الوقوف على اختصاصات المحافظ باعتباره جهازا أساسيا اعترف له المشرع بهذه الصفة، هذا الأخير الذي يجب أن يعمل في نطاق اختصاصه وإلا اعتبر مسؤولا مسؤولية شخصية أمام المتضرر، كما يمكن أن يساءل إداريا أمام المحافظ العام أو القضاء سواء منه الإداري أو العادي . .
لذلك وانطلاقا مما مر بنا يكون المنهج المعتمد لهذه الدراسة نابعا من طبيعة مسطرة التحفيظ التي تفرض علينا تقسيم البحث إلى بابين:
- الباب الأول: مكانة الاجتهاد القضائي في مسطرة التحفيظ العقاري.
- الفصل الأول: الاجتهاد القضائي بين إدارية مسطرة التحفيظ وأصالة اختصاص القضاء.
- الفصل الثاني: القواعد القانونية المطبقة أثناء مسطرة التحفيظ العقاري.
- الباب الثاني:
دور الاجتهاد القضائي في تفعيل مسطرة التحفيظ . –
الفصل الأول:
الاجتهاد القضائي وشكليات مسطرة التحفيظ.
- الفصل الثاني:
الاجتهاد القضائي وقاعدة التطهير.