إشكالات الحجز على أموال الجماعات المحلية بين الخزينة أو القباض الجماعيين
التنفيذ هو ثمرة الحكم، وهو تمظهر أساسي وجوهري لقيام وترسيخ دولة الحق والقانون، فقد ورد في خطاب المغفور له صاحب الجلالة الحسن الثاني المؤرخ في 21 مارس 1982 بمناسبة استقباله بالقصر الملكي العامر لأعضاء الحكومة وكبار رجال القضاء والمحامين والعدول : "... ومسؤولية التنفيذ هي أعتقد شخصيا أكبر المسؤوليات ... فعدم التنفيذ أو التماطل في التنفيذ يجر المرء إلى تفكير آخر هو انحلال الدولة ... "، وما يؤكد الأهمية القصوى للتنفيذ هو التنصيص الدستوري عليه وذلك في المادة 124 التي تنص على أنه : " تصدر الأحكام وتنفذ باسم جلالة الملك وطبقا للقانون" والمادة 126 التي تنص على أن : " الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع ".
كما أن مواقف كافة الحكومات المغربية المتعاقبة قد أجمعت على خطورة هذه المسؤولية واندراجها ضمن الواجبات الرئيسية الملقاة على الإدارة بصفة عامة، وحثت على تنفيذ الأحكام والقرارات النهائية، سواء عبر الدوريات أو المناشير أو التصريحات الصادرة عنها، ولا تفوتنا هنا الإشارة بفخر واعتزاز إلى ما ورد في الظهير الشريف المحدث لمؤسسة الوسيط (المنشور بالجريدة الرسمية علد 5926 بتاریخ 12 ربيع الثاني 1432 - الموافق 17 مارس 2011).
وذلك في المادة 32 : " إذا اتضح أن الامتناع عن تنفيذ حكم قضائي نهائي صادر في مواجهة الإدارة ناجم عن موقف غير مبرر لمسئول أو موظف أو عون تابع للإدارة المعنية أو إخلاله بالقيام بالواجب المطلوب منه، من أجل تنفيذ الحكم المذكور، قام الوسيط برفع تقرير خاص في الموضوع إلى الوزير الأول، بعد إبلاغ الوزير المسئول أو رئيس الإدارة المعنية لاتخاذ ما يلزم من جزاءات لازمة ومن إجراءات في حق المعني بالأمر، كما يمكنه أن يوجه إلى الإدارة المعنية توصية بتحريك مسطرة المتابعة التأديبية، وإن اقتضى الحال توصية بإحالة الملف على النيابة العامة لاتخاذ الإجراءات المنصوص عليها في القانون، في حق المسئول أو الموظف أو العون الذي تأكد أنه المسئول عن الأفعال المذكورة، وفي هذه الحالة، يخبر الوسيط الوزير الأول بذلك".
فهذه المقتضيات القانونية الجد متقدمة، والواردة ضمن اختصاصات مؤسسة الوسيط (كمؤسسة دستورية مهمتها الدفاع عن الحقوق في نطاق العلاقات بين الإدارة والمرتفقين، والإسهام في ترسيخ سيادة القانون وإشاعة مبادئ العدل والإنصاف، وقيم التخليق والشفافية في تدبير الإدارات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية والهيئات التي تمارس صلاحيات السلطة العمومية (المادة 162 من الدستور) تؤكد المنحى الإيجابي الذي عرفته محاولة إبداع الحلول الإشكالية تنفيذ الأحكام والقرارات الإدارية، والمتجه حتما إلى الإقرار القانوني للمسؤولية الجنائية والمدنية والتأديبية للمسئول عن الامتناع عن التنفيذ، أو عن مجرد التماطل فيه بسوء نية كيفما كانت رتبته أو درجته. وذلك بعد تدخل تشريعي لوضع إطار قانوني ملائم لتنفيذ الأحكام والقرارات الصادرة في مواجهة أشخاص القانون العام.
إن التنفيذ في مواجهة الجماعات المحلية يواجه غالبا صعوبات وعوارض، وذلك بالنظر لإكراهات الميزانية، وتعقد مسطرة الأداء وكثرة المتدخلين وجوبا فيها وتقييدها بقواعد المحاسبة العمومية. وإذا كان القضاء الإداري قد ابتدع وابتكر عدة وسائل وطرق للتنفيذ عليها، منها الحكم بالغرامة التهديدية في مواجهة أشخاص القانون العام، بل وفي مواجهة المسئول الإداري في شخصه متى اقتضى الأمر ذلك، وذلك بالنسبة للأحكام القاضية بالقيام بعمل أو بالامتناع عن القيام به طبقا للفصل 448 ق. م.م (وهو اتجاه اختلف الفقه والعمل القضائي حوله، وكان للمجلس الأعلى سابقا - محكمة النقض حاليا - في الغرفة الإدارية وجهة نظر مخالفة للمحاكم الإدارية بهذا الخصوص) فقد أجاز كذلك إمكانية التنفيذ عن طريق الحجز على الأملاك الخاصة التي لا ترتبط بتسيير المرفق العمومي، فالملاحظ، حسب تجربتنا المتواضعة بالمحكمة الإدارية للدار البيضاء سابقا كقاضيا للتنفيذ، هو كون طلب الحجز على أموال_الجماعات_المحلية عامة، والجماعات الحضرية والقروية خاصة، يبقى هو الأكثر سلوكا وبما أن حجز أموالها يكون بين يدي الخزنة والقباض الجماعيين المسيرين الميزانيتها (كمحاسبين عموميين) فإن هؤلاء المحجوز بين يديهم، وبهذه الصفة، يثيرون إشكالات وصعوبات نستعرضها كما يلي :
أولا:
كون طالبو الحجز يتعاملون مع اعتمادات الميزانية وكأنها حسابات بنكية، وقد يطلبون الحجز على الميزانية برمتها دون تحديد البند المطلوب حجزه وطبيعة تخصيصه رغم ما قد يترتب عن ذلك من عرقلة مؤكدة لسير المرفق العمومي. وفي هذا الإطار صدرت عن القضاء الإستعجالي بالمحكمة المذكورة علة أوامر قضت بوجود صعوبة تعترض التنفيذ لتحقق الإخلالات المذكورة.
كما أن لجوء طالبي التنفيذ إلى سلوك هذه المسطرة في مواجهة الجماعات المحلية اصطدم دائما بتمسك الخزنة أو القباض الجماعيين بكونهم لا يعتبرون مؤسسة تودع لديها أموال الجماعة، وبالتالي يعتبرون بأنهم ليسوا غيرا حتى تحجز أموال الجماعة بين أيديهم، مؤكدين بأن مهمتهم كمحاسبين عموميين تنحصر في مراقبة صحة نفقات الميزانية الجماعية، وذلك طبقا لمبدأ الفصل بين مهمتي الأمر بالصرف والمحاسب العمومي (المرسوم رقم 441_209 الصادر بتاريخ 3 يناير 2010 بسن نظام للمحاسبة العمومية للجماعات المحلية ومجموعاتها - المادة 4).
ونشير هنا إلى أن المجلس الأعلى سابقا محكمة النقض حاليا قد سبق وأن سایر هذا الطرح ولم يعتبر القباض غيرا مودعا بين يديه وذلك بمقتضى قراره عدد 650 الصادر بتاريخ 2004/ 09 / 29 في الملف الإداري عدد 2004/2/4/197 قابض بن أحمد في مواجهة ورثة الحاج إدريس الودادسي - قرار غير منشور-) والذي ألغى حكم المحكمة الإدارية بالدار البيضاء القاضي بالمصادقة على حجز فائض ميزانية بلدية ثلاثاء الأولاد بين يدي قابض ابن احمد والصادر بتاريخ 2004 / 03 / 25 في الملف عدد 04 / 569س.
وخلافا لهذا التوجه، فقد حسمت الماحة 88 من المرسوم أعلاه رقم 2 - 09 - 441 في النقاش المطروح بهذا الخصوص، عندما أجازت إجراء الحجز بين يدي الخزنة أو القباض الجماعيين، بل وحصرت إجراء مسطرة الحجز بين يديهم دون غيرهم من المؤسسات وذلك تحت طائلة البطلان، وفي هذا الإطار عرض علينا - كقاضيا للتنفيذ بالمحكمة المذكورة - ملفا للمصادقة على حجز أموال الجماعة الحضرية للدار البيضاء بين يدي شركة ليدك، ورغم التصريح الإيجابي لهذه الأخيرة، فأصدرنا حكما برفض الطلب تطبيقا للنص القانوني المذكور أعلاه المرتب البطلان أي حجز يقع بين يدي أية جهة غير المحاسب العمومي المكلف بالأداء الحكم عدد 10 الصادر بتاريخ 201204 / 16 في الملف الحجز عدد 2012 / 5 ، شركة كونصولیدير للأشغال العمومية في مواجهة الجماعة الحضرية للدار البيضاء).
وبذلك نستخلص كون المشرع قد جعل التنفيذ في مواجهة الجماعات المحلية عن طريق مسطرة الحجز بين يدي الغير غير مجدية خاصة وأنه لا يمكن إجبار هؤلاء الخزنة على القيام بتصريح إيجابي - الفصل 89 من المرسوم (وبالتالي تم تعطيل تطبيق مقتضيات الفصل 494 من ق.م.م في مواجهتهم في حالة عدم الحضور أو عدم التصريح).
وفضلا عن ذلك وفي نفس السياق، فإن الخزنة والقباض الجماعيين يتمسكون أيضا بأنه لا يمكنهم تصفية النفقات الحكوم بها ووضع الأوامر بالأداء بخصوصها إلا بعد تمكنهم من طرف الآمر بالصرف بالوثائق اللازمة لذلك، والمحددة في الأدني بقرار وزير المالية الخاص بصرف النفقات العمومية المعمول به لدى المحاكم المالية، وواجهوا الحجوز على أموال الجماعة دائما بكون الإعتمادات ليست حسابات أو مبالغ مالية، بل هي مجرد أرقام توقعية مدرجة بالميزانية السنوية، وأنها لا تتوفر بكيفية ملموسة وحقيقية إلا إذا وجدت فعلا الموارد المالية المعول عليها، إذ تقوم ميزانية الدولة أو الجماعات على مبدأ التوقع.
أما بالنسبة لمأموري إجراءات التنفيذ فيتعين اختيارهم من بين أحسن أطر مصلحة كتابة الضبط، لا من حيث التكوين فقط، بل وكذلك من حيث حسن التعامل والتمثيل المشرف للقضاء الإداري بصفة عامة ظاهرا وباطنا، مع توفير التكوين المستمر لفائدتهم وتحفيزهم إداريا وماديا بحسب النتائج المحققة، وضمان تفرغهم الكامل المهمة التنفيذ، وتوفير وسائل التنقل ووسائل الاتصال الحديثة، ويجب كذلك إدماج الساحة المفوضين القضائيين في هذه العملية، في أفق تخصصهم مستقبلا، بشرط تلافي معيقات وملاحظات المرحلة السابقة، وتحديد واجبات مادية منصفة وعادلة لفائدتهم بحسب طبيعة وخصوصية المنازعات الإدارية.
3- تمكين بل وإلزام الإدارة والمؤسسات العمومية والجماعات المحلية بتخصيص اعتمادات مالية احتياطية ومسبقة - حتی قبل توفر السند النهائي المبرر - وذلك لضمان انسيابية العملية التنفيذية، مع ضرورة رفع الإكراهات الإدارية والمحاسبية التي تعيق ذلك حسب الوضع الحالي.
4- تحریم الامتناع غير المبرر عن التنفيذ - وفقا لضوابط معينة - يكون منطلقها من تقرير قاضي التنفيذ باعتباره الأقرب إلى العملية التنفيذية والأعرف بعوارضها، وبمدى تحقق سوء نية المسئول أو الموظف في هذا الامتناع، مع تفعيل المسؤولية الشخصية للممتنع عن التنفيذ وإسناد الاختصاص بالبت فيها في هذا الجانب - بصريح النص - إلى القضاء الإداري باعتبار البت هنا متفرع عن منازعة إدارية أصلا .
5- كما نقترح إحداث منتدى القضاة التنفيذ التابعين لكافة المحاكم الإدارية للتحاور والتناسق وتوحيد التوجيهات، ولوضع تصورات واقتراحات تودع لدى السلطات الحكومية والمؤسسة التشريعية لتفعيلها والسير على هديها.
6- ضرورة التنسيق مع المؤسسات الدستورية المعنية بتنفيذ الأحكام والقرارات الإدارية - كمؤسسة الوسيط والمجلس الوطني الحقوق الإنسان - وذلك لتضمين ما تمت معاينته واقتراحه من طرف قضاة التنفيذ في تقاريرها وتوصياتها.