recent
أخبار ساخنة

السياسة الجنائية والعدالة الرقمية

 

السياسة الجنائية والعدالة الرقمية 

السياسة الجنائية والعدالة الرقمية 


شهدت السنوات الأخيرة تحولات جذرية في المشهد القانوني والقضائي المغربي بفعل الثورة الرقمية، التي امتدت آثارها إلى جميع القطاعات، بما فيها العدالة الجنائية. وقد أصبحت العدالة الرقمية اليوم أحد المرتكزات الجديدة التي تسعى السياسة الجنائية إلى استثمارها من أجل تحقيق النجاعة، وضمان الأمن القانوني، وحماية الحقوق في آن واحد.

تهدف السياسة الجنائية إلى حماية المجتمع من الجريمة من خلال آليات التجريم والعقاب والوقاية، لكنها مطالبة أيضًا باحترام مبادئ الشرعية والعدالة والحرية. وفي هذا الإطار، برز التساؤل حول مدى قدرة التحول الرقمي على تعزيز هذه الأهداف دون المساس بالضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة.

 

أولًا: مفهوم العدالة الرقمية وأبعادها الجنائية

العدالة الرقمية لا تقتصر على رقمنة الوثائق أو المنصات الإلكترونية، بل تشمل منظومة متكاملة تعتمد على تكنولوجيا المعلومات والاتصال في مختلف مراحل العدالة: من التبليغ، والتحقيق، إلى إصدار الأحكام وتنفيذها. وقد مكّنت هذه الأدوات من تسريع المساطر، وتسهيل التواصل بين مكونات العدالة، وتوفير قاعدة بيانات دقيقة للسوابق القضائية والجرائم الإلكترونية.

غير أن هذا التطور يطرح تحديات جديدة أمام السياسة الجنائية، خاصة فيما يتعلق بحماية المعطيات الشخصية، وضمان سرية الاتصالات، ومنع إساءة استعمال التقنيات الحديثة في تتبع الأفراد أو مراقبتهم خارج الضوابط القانونية.

 

ثانيًا: السياسة الجنائية في مواجهة التحديات الرقمية

تحاول السياسة الجنائية المغربية التوفيق بين مطلب الأمن الرقمي ومبدأ حماية الحقوق الفردية. فالقانون الجنائي والمسطرة الجنائية تم تحديثهما تدريجيًا لاستيعاب الجرائم المعلوماتية، مثل الولوج غير المشروع للأنظمة المعلوماتية، أو نشر المعطيات الشخصية دون إذن. كما أُحدثت فرق متخصصة في مكافحة الجريمة الإلكترونية داخل الشرطة القضائية والنيابة العامة.

لكن الرقمنة لا تقتصر على تتبع الجريمة فقط، بل تمتد إلى تحديث طرق التدبير القضائي. فقد تم اعتماد المنصات الإلكترونية لتدبير القضايا وتتبع الملفات، مثل «المحكمة الرقمية» و«محاكمتي»، مما مكّن من تقليص آجال البت في الملفات وتحسين التواصل بين المتقاضين والإدارة القضائية.

 

ثالثًا: بين الفعالية والضمانات الحقوقية

على الرغم من الإيجابيات العديدة للتحول الرقمي، فإن العدالة الرقمية قد تُفضي إلى مخاطر حقيقية، خاصة عندما يُستعمل الذكاء الاصطناعي أو تقنيات المراقبة في مجالات حساسة دون رقابة بشرية كافية. وهنا يُطرح التساؤل حول حدود المشروعية، وسبل تحقيق التوازن بين الفعالية التقنية وحماية كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية.

إن العدالة الجنائية في العصر الرقمي مطالبة بأن تبقى إنسانية في جوهرها، قائمة على مبدأ المحاكمة العادلة، وافتراض البراءة، والمساواة أمام القضاء، مهما بلغت درجة تطور الوسائل التكنولوجية.

 

رابعًا: نحو سياسة جنائية رقمية رشيدة

لإنجاح العدالة الرقمية، لا بد من اعتماد سياسة جنائية رقمية رشيدة تقوم على ثلاث ركائز أساسية:

1.     التحديث التشريعي المستمر لمواكبة الجرائم والمستجدات التقنية؛

2.     تأهيل الموارد البشرية، وخاصة القضاة والنيابة العامة والمحامين، في مجال التكنولوجيا القانونية؛

3.     تعزيز التعاون الدولي لمواجهة الجرائم العابرة للحدود، التي تستغل الفضاء الرقمي في ارتكاب أفعال مجرّمة.

إن الرقمنة ليست هدفًا في حد ذاتها، بل وسيلة لترسيخ عدالة أكثر شفافية وسرعة وفعالية. لكن نجاحها يظل رهينًا بقدرة المشرّع المغربي على صياغة قواعد قانونية متوازنة تحمي المواطن من الجريمة، دون أن تتحول التقنية إلى أداة للمساس بحريته.

 لتحميل المقال من الموقع الرسمي

السياسة الجنائية والعدالة الرقمية
المستشار القانوني

تعليقات

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent