مقدمة:
"إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من النار"، هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روته أم سلمة رضي الله عنها، مبرزا بذلك دور وأهمية وخطورة ما يقدمه المتخاصمون من حجج تكون لهم عتقا من حكم القضاء وإنصافا من خلاله.
ولأن القاعدة القانونية قاعدة سلوكية تضبط وتؤطر مختلف التصرفات والوقائع المادية بين الأفراد داخل المجتمع، فقد كان لزاما على المشرع أن يضع للأفراد وسائل الإثبات تصرفاتهم أمام القضاء للاستفادة من قاعدة قانونية ما أو استبعادها. فالقضاء في نهاية المطاف يتولى الظهائر بما لديه من حجج، والله يتولى السرائر.
والإثبات هو تقديم الحجج الثمينة بجدية وأحقية طرفي الدعوى فيما يدعونه، وهو ما يشكل تفعيلا للقاعدة الفقهية المشهورة المستمدة من الحديث النبوي الشريف "البينة على من ادعی واليمين على من أنكر"، إذ هو حفظ لحقوق الأفراد من الادعاءات الكاذبة والمضللة، وفي هذا الصدد تستوقفني مقولة الفقيه ايرينج "Ihring" عن هذه الفكرة بعبارته الشهيرة " إن الدليل فدية الحق"2، كما تتجلى أهميته في استقرار المعاملات وإشاعة الطمأنينة داخل المجمتع وتمكين القاضي من إنتاج الحقائق القضائية بناء على الحقائق الواقعية ومن ثم الاقتراب ما أمكن للعدالة القصوى، الشيء الذي ينعكس إيجابا على المجال الاقتصادي والاجتماعي، وهو أيضا تحصين لمرفق القضاء من الدعاوى الكيدية التي قد تثقل كاهله بما ينعكس سلبا على العمل القضائي.
وقد عرفت مؤسسة الإثبات المدني في المغربي تمرحلا تاريخيا يمكن تقسيمه الى محطتين أساسيتين، مرحلة ما قبل الحماية الفرنسية مستندة في أغلبها على الفقه الاسلامي وخاصة الفقه المالكي (اليمين، الشهود العدول، الشهود اللفيف، العرفاء القرائن..)، ومرحلة الحماية
التي كانت محطة بارزة ودينامية بصدور قانون الالتزامات والعقود وقانون المسطرة المدنية بموجب ظهير 12 غشت1913 مؤسسة بذلك لنظام الإثبات المدني إطارا قانونيا ينظمه ويحدد قواعده ووسائله. وقد أتي المشرع المغربي في ظهير الالتزامات والعقود على ذكر وسائل الإثبات المقررة في نطاق المعاملات والوقائع المدنية، إذ عددها في مقتضى الفصل 404 على النحو الآتي بيانه: "وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي: إقرار الخصم ؛ الحجة الكتابية؛ شهادة الشهود ؛ القرينة ؛ اليمين والنكول عنها."
وقد تتساءلون أيها القارئ الكريم حول جدوى هذه التسمية "الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود" وسندكم في هذا التساؤل أنكم ترجحون تسمية الإثبات المدني عوض الالتزامات والعقود. وللإجابة عن تساؤلكم هذا لابد من الإشارة الى ما قاله الأستاذ إدريس العلاوي العبدلاوي في هذا الصدد، وهو أن الإثبات يرتكز على قواعد موضوعية تحدد محل الإثبات ومن يقع عليه عبء الإثبات وطرق الإثبات، وهي المنصوص عليها في القسم السابع من الكتاب الأول من ظهير الالتزامات والعقود، و قواعد شكلية تحدد الإجراءات التي تتبع في إقامة الأدلة عندما يكون النزاع معروضا على القضاء، وهي القواعد الشكلية المنصوص عليها في إطار الباب الثالث من القسم الثالث من قانون المسطرة المدنية، ولن أتناول في معرض هذا العمل المتواضع سوى الإثبات المنظم بمقتضى ظهير الالتزامات والعقود.
وانطلاقا من الفصل المومأ إليه يمكن إثارة إشكالية تتجسد على النحو التالي، إلى أي حد تساهم وسائل الاثبات الواردة في ظهير الالتزامات والعقود في مطابقة الحقائق القضائية للحقائق الواقعية؟
وفي ضوء هذه الإشكالية تتفرع الأسئلة التالية: - ماهي الشروط والقواعد التي تؤطر الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود؟ - وماهية وسائل الإثبات المشار إليها في هذا الظهير؟ وللإسهاب في الإجابة عن هذه الإشكالية أقترح التصميم الآتي:
المبحث الأول: قواعد وشروط الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود
المبحث الثاني: وسائل الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود
المبحث الأول: قواعد وشروط الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود
قبل الشروع في تبيان ماهية وسائل الإثبات التي حددها المشرع في إطار الفصل 404 من ظبل. ع، كان من اللازم التطرق أولا لجملة القواعد والشروط التي تؤطر وتنظم هذه الوسائل، وهو ما دفعني الى تقسيم هذا المبحث الى مطلبين، المطلب الأول يعني بقواعد الإثبات، والمطلب الثاني يخص شروط الإثبات.
المطلب الأول: قواعد الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود
إن الحديث عن قواعد الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود هو حديث عن الأسس والمنطلقات التي تنبني عليها هذه المؤسسة، وتتجلى هذه الأسس في مبدأ الإثبات المختلط (الفقرة الأولى)، ثم في عبء الإثبات (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: مبدأ الإثبات المختلط
إن مبدأ الإثبات المختلط هو مزيج بين مبدأ الإثبات المقيد ومبدأ الإثبات المطلق، وهو ما يستوجب ضرورة التفصيل في مفهوم هذا المبدأ، ثم آثاره على القضاة والمتقاضين.
أولا - مفهوم مبدأ الإثبات المختلط
لا يمكن على وجه الإطلاق تحديد مفهوم الاثبات المختلط في معزل عن تحديد مفهوم الاثبات المطلق أو الحر، وتحديد مفهوم الاثبات المقيد هو الآخر، لأن مبدأ الإثبات المختلط ما هو الا نتاج لعملية مزج بين كلا المبدأين المشار إليهما.
1 - الإثبات المطلق أو الحر
عرف الفقيه عبد الرزاق السنهوري مذهب الإثبات المطلق بكون مبدأ لا يرسم فيه القانون طرقا محددة للإثبات يقيد به القاضي، بل يترك الخصوم أحرار يقدمون الأدلة التي
يستطيعون إقناع القاضي بها، ويترك القاضي حرا في تكوين اعتقاده من أي دليل يقدم إليه، وهذا المذهب يقرب كثيرا ما بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية لمصلحة العدالة. غير أن هذا المبدأ ينطوي على خطورة بالغة، سيما وأنه يخول للقاضي سلطة أوسع في الأخذ بأي وسيلة إثبات أراد، وهو ما قد يشكل عائقا أمام مطابقة الحقيقة القضائية للحقيقة القانونية
2 - الإثبات المقيد أو القانوني
على عكس الإثبات المطلق الذي يسمح فيه للقاضي والمتقاضين بالأخذ بأي وسيلة إثبات ارتأوا أنها ذات جدوى في الوصول الى العدالة، فإن الإثبات المقيد على خلاف ذلك. إذ أنه في الإثبات المقيد أو القانوني يرسم القانون طرقا محددة تحديدا دقيقا لإثبات المصادر المختلفة للروابط القانونية، ويجعل لكل طرف قيمته، ويتقيد بكل ذلك الخصوم والقاضي.
غير أن هذا المبدأ بقدر ما يحدد طرق الإثبات بدقة ويقطع الطريق على أي تعسف أو شطط قضائي، فهو قد يباعد بين الحقيقة الواقعية التي يمكن إثباتها بوسيلة أخرى كالشهادة مثلا، وبين الحقيقة القضائي التي وضع لها وسيلة إثبات معينة كالكتابة. وهو ما يشكل هدرا لحقوق المتقاضين باسم القانون الذي يفترض فيه أن يكون مرنا في تقصي الحقائق بغية الوصول الى العدالة.
3 - الإثبات المختلط
وهو مزيج بين نظام الإثبات المقيد ونظام الإثبات المطلق، ففي هذا النظام يسمح للقاضي بالتعامل بمرونة أكبر في جمع ما يساعده في الوصول الى العدالة، ويسمح للمتقاضين أيضا بالدفع بأي وسيلة ارتأوا، وفي نفس الوقت يؤطر بعض المعاملات بضرورة الأخذ بوسيلة دون الأخرى.
فالإثبات المختلط على حد تعبير فقيهنا عبد الرزاق السنهوري نظام يجمع بين ثبات التعامل بما احتوى عليه من قيود، وبين اقتراب الحقيقة الواقعية من الحقيقة القضائية بما أفسح فيه
اللقاضي من حرية التقدير. وهذا النظام الوسط هو الذي اعتد به المشرع المغربي في ظهير الالتزامات والعقود
ثانيا – آثار نظام الإثبات المختلط
إن الأخذ بنظام الاثبات المختلط يجد له آثارا على المتقاضي من ناحية، وعلى القاضي من ناحية ثانية، وهو ما سوف أحاول الإسهاب فيه قدر الإمكان.
1- أثر نظام الإثبات المختلط على المتقاضين
الإثبات واجب وحق، فهو واجب على من يدعي بحق ما، إذ يكون عليه أن يقيم الدليل على ما يدعيه، وهو أيضا حق، فالشخص الذي يدعي بواقعة توفرت فيها الشروط (التي سنتطرق لها في قادم الأسطر) يكون له الحق في اثباتها لتدعيم دعواه، فإذا لم يمكنه القاضي من ذلك كان هذا إهدارا لحقه في الإثبات، وبعبارة أخرى اخلالا بحقه في الدفاع يجعل الحكم مشوبا بالقصور وهو ما يؤدي الى نقضه.
ومن ثم فإن نظام الإثبات المختلط يوفر حق الاختيار للمتقاضين، غير أن عنصر الاختيارية يتقيد ببعض الشروط، هذه الشروط التي سوف أتطرق لها في باقي الأسطر، ويمكن الإشارة لها بإيجاز من باب التوضيح في النقاط التالية . لا يجوز للمتقاضي أي يثبت ما اشترط فيه القانون شكلا معينا الا بذلك الشكل، طبقا لأحكام الفصل 401 من ظ.ل.ع - لا يجوز للمتقاضي إثبات واقعة لم تتوفر فيها شروط الإثبات، وهي أن تكون الواقعة تتعلق بالدعوى ومنتجة وجائزة للإثبات طبقا لأحكام الفصل 403 من ظل.ع.
- أثر نظام الإثبات المختلط على القاضي يتجلى أثر نظام الإثبات المختلط على القاضي في عدم جواز رفضه لطلب المتقاضي بالاعتماد على وسيلة إثبات معينة شريطة أن تكون مستوفية للشروط وألا يكون في الأخذ بها مخالفة لقاعدة آمرة تقضي بشكل معين كما يقضي بذلك الفصل 401 من ظل. ع. أضف الى ذلك أن القاضي ينفرد بسلطة تقدير هذه الأدلة.
كما أن هذا المبدأ يلزم القاضي بقاعدة أساسية، وهي أنه لا يجوز له أن يقضي بعلمه، وأنه ملزم بعرض أي دليل يقدمه الخصم في الدعوى على الخصوم جميعا للمناقشة، ويدلي كل برأيه فيه، يفنده أو يؤيده، والدليل الذي لا يعرض على الخصوم للمناقشة لا يجوز الأخذ به ولا يجوز للمحكمة أن تأخذ بدليل نوقش في قضية أخرى ما لم يناقش في القضية القائمة، كما يلتزم القاضي أيضا بمبدأ الحياد الذي يقضي بتقييد حرية القاضي في توجيه الدعوى واستخلاص الحقائق من أدلهتها الا في حدود ضيقة.
الفقرة الثانية: عبء الإثبات في ظهير الالتزامات والعقود
إن القاضي وهو ينظر في النزاع المعروض عليه يستعين بدعامتين أساسيتين، الدعامة الأولى هي العلم بالقانون والتمكن منه، وهو ما يفترض فيه بداهة بالنظر لوظيفته كقاضي غايته العدالة، والدعامة الثانية تتجلى في ما يقدمه المتقاضون من أدلة تساعده في الإقرار بالحقوق لأصحابها دون سواهم. وإذا كان المشرع قد أرسى الدعامة الأولى بتكوينه للقضاة بعد الانتقاء والتداريب النظرية والميدانية، فقد وضع قواعد تنظم هذه الأدلة المشكلة للدعامة الثانية، هذه الأدلة التي يتقدم بها المتقاضون، وفي هذا الصدد وجب التمييز بين المتقاضي الذي يقع عليه عبء الإثبات من الآخر (ثانيا)، وقبل ذلك وجب التطرق لمبدأ أساسي يؤطر عملية الإثبات وهو مبدأ حياد القاضي (أولا).
أولا: مبدأ حياد القاضي
إن الحياد المقصود في هذا الصدد ليس معناه عدم التحيز فإن هذا واجب بداهة على القاضي بل معناه أن يقف القاضي موقفا سلبيا من كلا الخصمين على حد سواء ،والمستفاد من هذا التأصيل الفقهي لمبدأ الحياد هو عدم مساهمة القاضي في جمع الأدلة، وإنما ترك هذه المهمة للخصوم، غير أن هذا المبدأ يرد عليه استثناء مهم.
ومن ثم كان من اللازم مناقشة مبدأ الحياد من خلال الإحاطة بالأصل والاستثناء المقرر اللقاضي في جمع الأدلة.
1- عدم مساهمة القاضي في جمع الأدلة كأصل على خلاف الدعوى العمومية التي تمارسها النيابة العامة، وتنفلت من يد أطرافها، بل النيابة العامة طرفا أصلي فيها، فإن الدعوى المدنية ملك للخصومال، ومعنى هذا القول أن المدعي إذا لم يدلي بحجج يبرز من خلالها صحة ادعائه فإن القاضي لا يساهم كأصل في أن جمع الأدلة، ولا يحكم بعلمه هو الآخر، وفي ذلك تفعيل للقاعدة الفقهية المستمدة من الحديث النبوي الشريف، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، وتفعيلا لما أقره المشرع أيضا ضمن مقتضى الفصل 399 من ظل.ع الذي جاء فيه "إثبات الالتزام على مدعیه"
2 - مساهمة القاضي في جمع الأدلة على وجه الاستثناء انطلاقا من خصائص الإثبات المختلط وما يخوله للقاضي من صلاحيات تمكنه من التعامل بمرونة مع القضية المعروضة عليه، وتمكنه من تجواز جمود النص القانوني الذي قد يكون في بعض الأحيان قاصرا أو عائقا أمام إنتاج الحقائق القضائية في انسجام مع الحقائق الواقعية، فقد أجاز المشرع للقاضي المساهمة على وجه الاستثناء في جمع الأدلة، وهذه المساهمة تتمظهر في الصلاحيات التالية:
- التحقيق في الدعوى: حيث أنه إذا لم يقتنع القاضي بما أدلي إليه من حجج عبر مستندات الدعوى يمكن له أن يساهم في جمع مزيد من الأدلة من خلال الأمر بالبحث في شأن الوقائع، وهو ما ينص عليه المشرع في مقتضى الفصل 71 من ق.م.م الذي جاء فيه "يجوز الأمر بالبحث في شأن الوقائع التي يمكن معاينتها من طرف الشهود والتي يبدو التثبت منها مقبولا ومقيدا في تحقيق الدعوى".
وقد أكد الفصل 55 من ق.م.م هو الآخر على هذا الاستثناء "يمكن للقاضي بناء على طلب الأطراف أو أحدهم أو تلقائيا أن يأمر قبل البت في جوهر الدعوى بإجراء خبرة أو وقوف على عين المكان أو بحث أو تحقيق خطوط أو أي إجراء آخر من إجراءات التحقيق . تقدير الأدلة: إذ أن الأدلة المدلى بها يكون للقاضي وحده سلطة تقديرها واستخلاص الحقائق القضائية منها، ولا رقابة لمحكمة النقض على هذه السلطة التقديرية ما دام أنها تعني بالموضوع لا القانون. وبعد أن تطرقت بشيء من الإيجاز لمبدأ حياد القاضي سأتطرق الآن إلى نقطة مهمة تتعلق بضرورة تمييز من يقع عليه عبء الإثبات من المتقاضين.
ثانيا- تمييز المدعي عن المدعى عليه
إن التمييز بين المدعي والمدعى عليه الأمر يبلغ من الأهمية بما كان، إذ أنه قمين بتحديد من يقع عليه عبء الإثبات منهم، وبالتالي يتوجه إليه القاضي بضرورة الإدلاء بصحة ما يدعيه لكي يخلص الى تكوين قناعة تمكنه من إصدار حكم فاصل وعادل في موضوع النزاع. كما أن تحديد من يتحمل عبء الإثبات مسألة قانونية تخضع لرقابة محكمة النقض.
وتحديد من يحمل عبء الإثبات مسألة يجب تناولها من حيث المبدأ ثم من ناحية التطبيق.
1- عبء الإثبات من حيث المبدأ إن عبء الإثبات من حيث المبدأ يحتكم الى القاعدة الفقهية القائلة بأن البينة على من ادعي والمقررة بمقتضى الفصل 399 من ظل.ع، وهنا يجب التفصيل في مفهوم المدعي على مستوى القواعد الإجرائية والقواعد الموضوعية.
فعلى المستوى الإجرائي فالمدعي هو من يقوم بتسجيل مقال الدعوى، ويبقى مدعيا الى حين صدور الحكم، فإذا تقدم المدعي عليه بمقال مضاد، سمي بدوره مدعيا في هذا المقال، حتى إذا صدر الحكم، اعتبر كل طرف مدعيا ومدعى عليه في نفس الوقت، لوجود دعاوی متقابلة، أما من حيث الموضوع فالأمر مختلف، ذلك أن المدعي ليس هو من يرفع المقال ويحرك الخصومة القضائية، كما أن الطرف الواحد قد يصبح مدعيا في دفع ومدعى عليه في آخر .
وقد حدد الفقيه السنهوري المدعي الذي يقع عليه عبء الإثبات بأنه الطرف الذي يدعي خلاف الثابت حكما أو فعلا، لأنه يدعى خلاف الأصل أو الظاهر أو المفروض أو الثابت، فوجب أن يحمل عبء إثبات ما يدعيها. وعليه سأتطرق لخلاف الثابت حكما أو فعلا كل على حدة.
أ- المدعي بخلاف الثابت حكما
إن المقصود بالمدعي بخلاف الثابت حكما، هو من يدعي بخلاف ما يعتبر مجودا في البشر فطريا، وهو من يقع عليه عبء الإثبات لأنه ادعى بخلاف ما هو موجود كأصل. . والأصل في نطاق الحقوق الشخصية هو براءة الذمة: فمن يتمسك بالأصل لا إثبات عليه، ومن يدعي خلاف الأصل، بأن يدعي دينا في ذمة الغير عليه أن يثبت مصدر هذا الدين، فمن ادعى أنه أقرض أخر مبلغا من المال عليه أن يثبت هذا القرض. لأن الأصل هو براءة الذمة . والأصل في نطاق الحقوق العينية هو الظاهر: فالحائز للعين غير مطالب بإثبات ملكيته، لأن الظاهر هو أن الحائز مالك، وغير الحائز الذي يدعي ملكية العين هو الذي يدعي خلاف ذلك، فعليه هو يقع عبء الإثبات، ومن ثم كان الحائز هو المدعى عليه دائما في دعوى الملكية، وذلك مالم يتبين من مستندات المدعي أن الظاهر يؤيد دعواه وينفي دفاع المدعى عليه، فعندئذ ينتقل عبء إثبات الملكية إلى المدعى عليه.
- والثابت فرضا كالثابت أصلا وكالثابت ظاهرا: ذلك أن قد يحل محل الأصل في نطاق الحقوق الشخصية ومحل الظاهر في الحقوق العينية وضع يقر القانون وجوده عن طريق قرينة قانونية؟، وكمثال على هذه القاعدة هو ما نص عليه المشرع في مقتضی الفصل 85 من ظ.ل. ع، حيث يكون الأب والأم مسؤولين عن الأضرار التي تسبب فيها ابنهم القاصر الساكن مفهم، وإن كان الأصل يقضي بضرورة تحميل المسؤولية للشخص الذي تسبب في الضرر شخصيا طبقا لأحكام الفصل 77 و78 من ظ.ل.ع، فإن المشرع أقر هذه القاعدة في الفصل 85 من ظل.ع لكي تكون كالثابت أصلا وكالثابت ظاهرا، لأن الأب فالأم في هذه الحالة قصروا في تربية ابنهم، ولن يتحللوا من المسؤولية الا بإثبات العكس (كأن يثبتوا أنه كان في المدرسة مثلا). . والأصل في العقود الصحة: ما لم يثبت عكس ذلك، كأن يدلي أحد طرفي العقد بأدلة تثبت عيبا من عيوب الإرادة مثلا . والأصل في الإنسان كمال أهليته: كما نص على ذلك المشرع في الفصل 3 من ظل.ع الذي جاء فيه "وكل شخص أهل للإلزام و الالتزام ما لم يصرح قانون أحواله الشخصية بغير ذلك" . الأصل في التصرفات حسن النية: ذلك أن جميع التصرفات يفترض فيها حسن النية ما لم يثبت عكس ذلك، وقد كرس المشرع هذه القاعدة بمقتضى الفصل 477 من ظل.ع الذي جاء فيه: "حسن النية يفترض دائما ما دام العكس لم يثبت". وسأتطرق الآن إلى المدعي بخلاف الثابت فعلا.
ب - المدعي بخلاف الثابت فعلا
إن المقصود بالمدعي بخلاف الثابت فعلا هو الطرف الذي يدعي بخلاف ما أقام الخصم الدليل عليه بالطرق القانونية، حقيقة أو ضمنا.
. و خلاف الثابت حقيقة كأن يثبت شخص خلاف ما كان ثابتا أصلا، فإذا كان الأصل في الالتزام حسن النية وأثبت الخصم بقرينة خلاف ذلك، كان على الطرف الآخر عبء إثبات عكس هذه القرينة الثابتة حقيقة، أي يجب عليه حينها أن يثبت حسن نيته، وهو الأمر الذي كان معفيا منه في أول الأمر. . وخلاف الثابت ضمنا هو خلاف لما يستتبع الالتزام الأصلي، فبيع المعمل مثلا يشمل المعمل كأصل والآلات بشكل ضمني مالم يوجد شرط بخلاف ذلك. وبعد التفصيل في عبء الإثبات من حيث المبدأ، سأتطرق الآن إلى الإثبات من حيث التطبيق.
2 - عبء الإثبات من حيث التطبيق إذا كان عبء الإثبات من حيث المبدأ يحتكم الى القاعدة المنصوص عليها في الفصل 399 من ظل.ع وفق القواعد المومأ إليها أعلاه، فإن هذا القول لا يجب أن يفهم على إطلاقيته، إذ أنه إذا أثبت الخصم وجود دین له عند الخصم الآخر "المدعى عليه"، كان من حق هذا الأخير أن يثبت عدم صحة هذا العقد، كأن يثبت وجود عيب من عيوب الإرادة أو عدم مشروعية المحل أو السبب، ومن ثم كان على القاضي أن يوزع عبء الإثبات على المتخاصمين بغية استخلاص ما يكفيه من الأدلة التكوين قناعة تؤهله لإصدار حق يقضي بحقيقة قضائية تكون مطابقة للحقيقة الواقعية. وتوزيع عبء الإثبات، إما أن يكون بحكم الواقع، أو بحكم القانون أو تطبيقا لقاعدة اتفاقية مصدرها العقد نفسه.
أ- توزيع عبء الإثبات بحكم الواقع
ويتجلى ذلك في توزيع عبء الإثبات عن طريق القرائن القضائية، كأن يثبت شخص ملكيته لحق عيني من خلال حيازته لهذا الحق، فينتقل بعد ذلك عبء الإثبات للطرف الآخر إذ يصبح ملزما بإثبات ملكيته لهذا الحق العيني هو الآخر وتفنيد صحة ادعاء الطرف الآخر، وهو ما نص عليه المشرع ضمن مقتضى الفصل 400 من ظل.ع الذي جاء فيه " إذا أثبت المدعي وجود الالتزام، كان على من يدعي انقضاءه أو عدم انقضاءه أو عدم نفاذه تجاهه أن يثبت ادعاءه"
ب - توزيع عبء الإثبات بحكم القانون
إذا تضرر شخص من فعل ارتكبه قاصر، يكفيه أن يثبت هذا الضرر والعلاقة السببية تجاه الأب والأم، وحينها ينتقل لهم عبء الإثبات بحكم القانون، إذ لهم أن يثبتوا أنهم لم يتمكنوا من منع وقوع الفعل الذي أدى إلى الضرر كما ينص على ذلك الفصل 85 من ظل. ع الذي جاء في فقرته الخامسة " وتقوم المسؤولية المشار إليها أعلاه، إلا إذا أثبت الأب أو الأم أو أرباب الحرف أنهم لم يتمكنوا من منع وقوع الفعل الذي أدى إليها".
ج - توزيع عبء الإثبات بحكم قاعدة اتفاقية
الأصل في العقود باعتبارها مصدرا من مصادر الالتزام تقوم على مبدأ سلطان الإرادة، وقد نص الفصل 230 من ظل.ع على ما يلي: الالتزامات التعاقدية المنشأة على وجه صحيح تقوم مقام القانون بالنسبة الى منشئيها ولا يجوز إلغاؤها إلا برضاهما معا أو في الحالات المنصوص عليها في القانون".
ومن ثم كان للمتعاقدين أن يتفقوا على توزيع عبء الإثبات بينهم في حالة نشوب أي نزاع بينهم، غير أن هذا التوزيع يحتكم لضابط مهم، وهو عدم مخالفة النظام العام، وأن لا يطال هذا الاتفاق القواعد الشكلية على اعتبار أنها من النظام العامة........
البحث كاملا من هنا
ولا تنسوا أعزائي الكرام المساهمة في إيصال المحتوى بمشاركته مع باقي زملائكم وزميلاتكم.