أطروحة دكتوراه بعنوان: موقع التصرفات العقارية في الوثائق العدلية 2017
".......
يعرف الميدان
العقاري في المغرب ازدواجية وتعددا كبيرين ، على مستوى أنواع العقارات
وطبيعتها والأنظمة والقوانين التي تخضع لها ، وقد نتج ذلك عن عوامل مختلفة أهمها
ارتباط المشهد العقاري في وقت من الأوقات بظرفية استعمارية ذات عمق استيطاني؟ هذا
من جهة ، ومن جهة أخرى فقد شهدت الوضعية العقارية بعد خروج المستمر ارتباکا
تشريعيا كبيرا لا زلنا نحيا في ظل آثاره إلى اليوم.
ومما
يدل على هذا الارتباك التشريعي تعدد الجهات المتدخلة في توثيق التصرفات المنصبة
على العقارات، ومن هذه الجهات نجد التوثيق العدلي، وهو أقدمها ، ولا يزال
صامدا إلى حد كبير، بالرغم من المنافسة التي يتعرض لها ؛ وهي منافسة
قد لا تكون شريفة في بعض الأحيان. ولو اقتصر الأمر على المنافسة لهان الخطب، إلا
أن التشريعات المتعاقبة تؤكد أن التوثيق العدلي يتعرض - في الميدان
العقاري خاصة - إلى إقصاء ممنهج.
وإذا
كان أغلب المهتمين يعتقدون أن سبب الإقصاء إنما يعود إلى العدول أنفسهم وتقصيرهم
في البحث والتعريف مهنتهم وبقدرتهم على الكتابة في الميدان العقاري خاصة،
بما يضمن أن تكون وثائقهم ذات حجية وقوة ثبوتية وإثباتية مطلقة في مواجهة الأطراف
والأغيار، وعند الإدلاء بها في مختلف الإدارات والمحاكم، فإن الموقف الواجب اتخاذه
من لدن العدول إزاء ذلك هو أن ينصرفوا إلى الدراسة والبحث بما يجعلهم يحررون وثائق
عقارية سليمة ودقيقة تجعلها مطلوبة من ذوي الحقوق وذات قابلية ونفاذ مطلقين.
وانطلاقا
من ذلك تظهر لنا الإشكالية الرئيسية للبحث التي يتم بموجبها التساؤل عن ماهية وحجم
المعارف والمعلومات القانونية والشرعية والتقنية الواجب الإحاطة بها من لدن العدول
والدارسين ، حتى يفضي الأمر إلى صياغة وثائق عقارية سليمة ودقيقة تحظى بالحجية
والقابلية والرواج وتؤدي إلى السلم الاجتماعي والرخاء الاقتصادي.
وفي ظل
الإشكالية الرئيسية التي سطرناها آنفا، تهدف الأطروحة إلى الجواب على عدة إشكالات
فرعية، تظهر خطوطها العريضة وفق إطار تسلسلي کرونولوجي يعنى بمرحلة تكوين الوثيقة
العدلية المنصبة على التصرفات القانونية العقارية ، وما تتطلبه من معلومات
تتعلق بالمستندات وبالأركان اللازمة التي تبنى عليها الوثيقة؛ ثم بمرحلة ترتيب
الوثيقة العدلية لحجيتها على مستوى الإثبات بوجهيه المتمثلين في الشهادة والكتابة
، وعلى مستوى الثبوت من ناحيتيه الموضوعية والإجرائية.
وقد
ظهر لنا أن تلك الإشكالات الفرعية منها ما يأتي في صورة بسيطة عند الحديث بصفة
منفردة عن الوثائق العدلية أو عن التصرفات العقارية ، ومنها ما يتخذ شكلا
مركبا يظهر عند الجمع بين هذين العنصربن .
فمن
بين الإشكالات التي تظهر على مستوى الزاوية التوثيقية المحضة، ما يبدو واضحا
للعيان من إحجام العدول في الكثير من الأحيان عن تلقي التصرفات العقارية
" ، بالرغم من الأضرار التي قد تلحق بالأطراف والمجتمع والاقتصاد من جراء ذلك
؛ وما استقر في الأذهان نسبيا- من عجز الوثائق العدلية عن استيعاب التصرفات
العقارية المستجدة . |
وقد ترتب عن ذلك معضلة معرفية بموجبها اعتبر
البعض أن الامتناع عن التوثيق في المجال العقاري يرجع إلى صفة من الانحطاط
كامنة في الوثائق العدلية نفسها، بينما أرجع البعض الآخر ذلك إلى ضعف التكوين لدى
القائمين بتحريرها ؛ ومحل الإشكال في ذلك يتعلق من جهة بأن انحطاط الوثائق
العدلية لا يمكنه أن يفضي إلى الوضع الذي ما زالت تتمتع به لحد الساعة - من
حيث التوفر على كل مقومات الصلابة التقنية والحجية القانونية ، ويتعلق من جهة أخرى
بأن القائمين على هذه الوثائق وهم العدول أساسا - لا يعوزهم التكوين الجامعي ولا
تنقصهم الشواهد العليا في مجال الشريعة والقانون .
لكن مسألة تكوين وتأطير العدول تؤدي بدورها
إلى التساؤل عن السبيل المفضي إلى تكوين العدول تكوينا يستجيب للحاجيات في ظل
المعاملات المدنية والعقارية التي لا تنتهي ، وهو يرتبط بمعرفة مدى وجود أشخاص على
أرض الواقع- ذوي جدارة علمية في التوثيق عموما والتوثيق العقاري خصوصا ،
ممن يمكن أن يعهد إليهم بهذا التأطير ، والحال أن أكثر المهتمين بالبحث في التوثيق
ما زالوا بعيدين إلى حد كبير عن الجوانب العملية والتطبيقية والواقعية لخطة
العدالة.
ومن ناحية أخرى فإن من أسباب ضعف التكوين عدم
وجود علاقة بين الجامعة والمحيط التوثيقي في إطار من الانفتاح النظري والعلمي بصفة
تفضي إلى التبادل العلمي النظري والتطبيقي وإلى التأطير الأكاديمي"، وهو
إشكال يرتبط بالنظرة الضيقة إلى التوثيق العدلي، التي ترى أن عبء النهوض
بخطة العدالة يقع على كاهل العدول وحدهم؛ والحال أن شأن العدول يعني المجتمع
بكامله، بل يعني الأجيال القادمة التي قد تنظر إلى الوثائق العدلية الحالية كتراث
حافل يظهر من خلاله الجانب الحضاري للمجتمع بأسره .
وإذا لم تكن سبل التكوين متوفرة بشكل رسمي ،
فلا أقل من أن يعمل الدارسون على تخطي هذا الشح في التأليف الموسوعي الشامل حول
الوثائق العدلية ، وهذا الأمر غير موجود بالشكل الذي نصبو إليه إلا في بعض
المؤلفات التي سبق أن أشرنا إليها ؛ وهو في نظرنا ليس عرضا للإشكال ، بل هو وجه من
وجوهه.
ومما يرتبط بما سبق، إشكالات أخرى يعتقد
البعض بموجبها أن الأمر لا يعدو أن يكون إقصاء ممنهجا لخطة العدالة ، وتحاملا على العدول
من طرف قوى للضغط ترمي إلى إضعاف نظام التوثيق العدلي أو القضاء عليه بالمرة،
لفائدة التوثيق الموازي الذي أحدثه الاحتلال الفرنسي مما يسميه البعض بالتوثيق
العصري.
وقد نتج عن هذه الازدواجية ، وما رافقها من
تكوين يعد كافيا نسبيا بالنسبة إلى الموثقين ، وضعيفا أو شبه منعدم بالنسبة إلى
العدول ، أن تعددت الدعوات بين من يطالب بالإبقاء على العدول كنظام أصيل والتخلص
من الموثقين كنظام دخیل ، ومن يطالب بعكس ذلك بدعوى الحداثة ونبذ التراث - ؛ ومن
يدعو إلى الإبقاء على الطائفتين مع توزيع الاختصاصات بينهما ، ومن يلح على توحيد
عملهما في إطار مسطرة توثيقية واحدة. فهذه الدعوات كلها تدل على أن الاحتلال نجح
في خلق جو من الاحتقان والاضطراب الذي ما زال مستمرا ، وقد مضى عليه ما يقرب من القرن.
وتظهر على مستوى التقنيات التوثيقية المحضة
-أيضا- إشكالات خلفت تضاربا في المجالات التشريعية والفقهية والقضائية ، ولم يحسم
فيها لحد الساعة ، إذ لا يعرف من قواعد خطة العدالة ما هو من المسلمات والثوابت وما
هو من المتغيرات ؛ فالبعض مثلا يعتقد أن التلقي الثنائي المعمول به عند العدول يعد
واجبا شرعيا أقره القرآن والسنة، بينما يعتقد البعض أن الواجب هو خلافه ؛ والبعض
يرى مشروعية العمل بشهادة اللفيف ، ومن هؤلاء من يعدها وسيلة إثبات ملزمة للقضاء ،
ومنهم من لا يجعلها وسيلة إثبات إلا من باب السلطة التقديرية للقضاء، بينما يرى
البعض أن اللفيف ينبغي الاستغناء عنه مطلقا .
وقد يبدو أن تلك الإشكالات لا أثر لها ما دام
أن العدول يكتبون الوثائق على الكيفية التي تعارفوا عليها ، ولا يعنيهم بعد ذلك ما
تخلفه وثائقهم من الناحية الفقهية والقضائية ، لولا أن تلك الوثائق تعرض العدول
لأقصى أنواع التعامل المجحف في مجال المسؤولية لاسيما في شقها الجنائي.
ويطرح الحديث عن المسؤولية إشكالا يتعلق بدور
القاضي المكلف بالتوثيق، الذي غالبا ما يبقى من الناحية العملية على الأقل في منأى
عن أي نوع من أنواع المسؤولية، ويرتبط بذلك خلاف حول طبيعة خطابه على الرسوم
العدلية، بين من يرى أنه يعد عملا ولائيا وإداريا ، ومن يرى أنه يعد عملا قضائيا،
كما يستدعي هذا الأمر إشكالا آخر مفاده عدم وجود مسطرة واضحة للطعن في قرار قاضي
التوثيق بعدم الخطاب على الشهادة .
ويرتبط بكل هذه الإشكالات معضلات توثيقية
ترجع أصولها إلى أبعاد تشريعية أو شرعية ، أو إلى ما يدخل في سياق النظام العام أو
فلسفة القانون أو مقاصد الشريعة الإسلامية ، ومن ذلك أن أكثر العدول يمتنعون عن
توثيق بعض العقود بحجة أنها ربوية بينما يتم توثيقها بكل سهولة عند بعضهم الآخر أو
عند الموثقين العصريين ، فهذا الأمر يثير مسألة مدى كون العدل رجل شريعة أم
رجل قانون ، ومدى وجود تضاد وتعارض بين الشريعة والقانون الوضعي ، كما يثير
التساؤل حول نطاق دائرة المعاملات ومدی تعلقها بالقانون أو بالشرع ، وارتباطها
بعناصر النظام العام.
ومن ناحية توثيقية شكلية يركز البعض على أن
شكل الوثيقة المكتوبة من طرف الموثق (العصري) تعد أسلم من حيث البنية وأكثر ضمانا
، ومناط الإشكال في ذلك أن هذا العامل الشكلي يعد من أسباب عدم توحيد عمل العدول
والموثقين عند القائلين به - خاصة أن البعض يتمسك بأن شكل الوثيقة العدلية هو
الأسلم باعتبار أنها مختصرة ومسترسلة، وأن الأصل في العقد أن بعض بنوده منعقد على
البعض الآخر، وأن الوثيقة العدلية تعتبر ملتقى للتقنيات القانونية والقضائية، دون
أن يكون من وظيفتها ترديد النصوص التشريعية؛ إذ هي جعلت للتوثيق لا للفقه أو
التشريع؛ بينما نجد على العكس من ذلك أن الموثق العصري يملأ وثيقته ببنود
للتذكير ببعض النصوص القانونية، وإيراد القواعد المكملة التي لم يتفق الأطراف على
مخالفتها، ما يجعل الوثيقة مليئة بالتلفيف والحشو والإطناب، وإن كانت تبدو براقة
بحسب الظاهر؛ ويذهب هذا البعض تبعا لذلك إلى أن الموثق صنعت حوله هالة من الأمة
والاعتبار لا ترجع بالضرورة إلى دقة ما يكتبه شكلا وموضوعا.
ومن الوجهة العقارية المحضة فإن أكثر ما
تطرحه الملكية العقارية من إشكالات يرجع إلى مجال الإثبات، ومن ذلك ما
يتعلق بمسألة أصل الملكية ؛ ذلك أن المالك الحق عيني على عقار ما يحتاج إلى الحصول
على سند يثبت ملكيته أمام الجميع بكيفية تجعل كل دعوى استحقاق ضده بلا موضوع ، مما
يفضي إلى ضرورة البحث في التقنيات المتبعة للقضاء على ذلك الإشكال القديم المتجدد
؛ ومن بينها تقنية العقد مع ما تحمله من أثر نسبي، لا يسمح بمواجهة الأغيار ؛
وتقنية الحيازة مع ما يعتريها من مشاكل تتعلق بترجيحات الملكية وتراجع الشهود
والطعن بالزور ؛ فلم تكف التقنيتان السابق ذكرهما لمنع دعاوى الاستحقاق والمساهمة
في ضمان استقرار المعاملات وجلب الاستثمار.
وهو الأمر الذي أدى إلى العمل بتقنية جديدة
ذات طابع براق ، تتجلى في نظام التحفيظ العقاري بما يحمله من وسائل و مساطر
إشهارية تحفظ الحقوق العينية ، وعلى رأسها حق الملكية العقارية، غير أن هذا النظام
لم يسلم هو الآخر من سلبيات ، ذلك أنه نظام اصطناعي غير طبيعي - اقترن بظرفية
استيطانية استعمارية كان من نتائجها ضياع حقوق الملاك الحقيقيين وتكريس الثغرات
والتدليس في النصوص التشريعية.
وعند التركيب والجمع بين موضوع التوثيق
وموضوع العقار ، تظهر إشكالات فرعية ترجع إلى أن لهذين الموضوعين حضورا
مزدوجا في كل فروع القانون ومجالاته ، وفي أغلب قضايا المعاملات المعاصرة ؛ ومن
ذلك أن القانون يشترط ورود التفويتات العقارية في وثيقة رسمية أو عرفية ، مما يثير
مسألة الكتابة ومدی کوها شكلية انعقاد أو شكلية إثبات ، وما يحيط به من اختلاف
بموجبه يرى أحد الفريقين أنه يمكن تقسيم الشكلية إلى شكلية إثبات وشكلية انعقاد ،
ويرى الأخر أنه لا وجود لما يسمى بشكلية الانعقاد.
وموضوع الكتابة يقودنا إلى جملة من التساؤلات
من بينها مدى جواز الاعتداد بالوثيقة العرفية في إثبات التصرفات العقارية ،
خاصة أن ظهورها ارتبط بظرف استعماري ، بالإضافة إلى ما يعتريها من ملابسات تحيط
بأسلوب تحريرها وورودها في الغالب ضمن مقتضيات غير قانونية ، وكذا ما يتعلق
بالوثيقة العقارية التي تكتب من أصناف المهنيين غير العدول والموثقين ، المصطلح
على تسميتهم بوکلاء الأعمال .
كما تطرح شكلية الكتابة إشكالا آخر يتعلق
بواقع وآفاق الاتجاه التشريعي نحو تعميم الصبغة الرسمية في توثيق التصرفات
العقارية ؛ وهو إشكال يزداد عمقا بالنظر إلى التضارب النظري والعملي الذي تتسم به
مظاهر التوثيق والإثبات على مستوى الازدواجية بين العقارات المحفظة والعقارات غير
المحفظة ؛ وعلى مستوى تعدد البنية العقارية في سياق هذين الصنفين.
وهذا الأمر تتعلق به معضلة أخرى تتجلى في مدى
ما توفره الوثيقة العدلية للأطراف والإدارات والمجتمع من ضمانات وحماية للحقوق
سواء في مرحلة الصياغة ، أو بعد اكتمالها ؛ ومن ذلك أنه لم يتم لحد الساعة تحويل
العدول نظاما للإيداع والمحاسبة على غرار الموثقين، بينما خول لهم القانون مكنة
مسك كناش التصاريح ، بدون أن يعلم ما إن كان هذا الكناش غير المفعل في الواقع
العملي - يشكل بديلا عن الإيداع.
ومن ذلك أيضا أنه لا توجد للوثيقة العدلية
ضمانات الثبوت والحجية أمام مصالح المحافظة العقارية ، وهو أمر يستدعي التطرق إلى
غياب التواصل الفعال بين العدول والمحافظين العقاريين ، بكيفية تجعل كل محافظ
عقاري على معرفة بجميع العدول المنتصبين بدائرة اشتغاله ، وعلى إلمام بالحد الأدنى
المتعلق بطبيعة التوثيق العدلي.