recent
أخبار ساخنة

الجماعات و تدبير التنمية الترابية بالمغرب -- التحديات والرهانات

الحجم

الجماعات و تدبير التنمية الترابية بالمغرب -- التحديات والرهانات


مقدمة

في خضم التحولات الكبرى التي تشهدها بنيات الدولة وتجدد أدوارها، وفي ظل تراجع وظيفتها التنموية وفي إطار ما يعرف بدولة التخلي أو دولة الحد الأدنى، مقابل تنامي دور الجماعات الترابية، لدرجة جعلت بعض الباحثين يقول بأنه إذا كان القرن العشرين عرف قوة وهيمنة الدولة وإنشاء المقاولات والمنشآت الصناعية والتجارية،

فإن القرن الحادي والعشرين سيعرف تعاظم دور الجماعات المحلية، من خلال هذا التطور والتقدم المستمر، وبالأخص في الوسائل التكنولوجية، أصبحت القوة التنافسية تقاس بمدى القدرة على الإبداع والابتكار والتجديد الذي يتماشى في نفس الوقت مع متطلبات عولمة الأسواق، فتعالت بذلك الدعوة إلى تطوير النظام اللامركزي، ونظام اللاتمركز واللذان يستندان على الشرعية الإدارية والعقلانية والقانونية، وذلك بتبني منظور جديد ومقاربة مغايرة تتوخى البعد التدبيري، من خلال ترسيخ مفاهيم "التنمية الترابية" "إدارة القرب"، "الحكامة الجيدة " التدبير التشاركي " "التخطيط الاستراتيجي" " الذكاء الترابي" "الجماعة المقاولة" " التدبير الحر".

من خلال ذلك أصبحت المقاربة الترابية، تحتل أهمية قصوى من أجل دعم التنمية الشاملة والمستدامة، وهو ما جعل إدارة التراب المحلي تشكل ميدانا خصبا للاجتهاد من أجل تطوير أفضل السبل والوسائل الكفيلة للنهوض بالتنمية المحلية.

لقد أصبحت الجماعات الترابية إحدى المحددات الرئيسية للتدخلات العمومية في مختلف مظاهر تدبير الشؤون العامة الترابية بالمغرب، ولعل تلك الأهمية لم تأت بمحض الصدفة ولا من فراغ، وفرضت هذا الدور الطلائعي للجماعات وللإدارة المحلية عموميا. فتنمويا كانت الدولة المركزية قد فشلت في تحقيق أهدافها، سياسيا لم تعد الدولة المركزية قادرة على إرساء قواعد الديمقراطية، التي تقتضي القرب من المواطن وإشراكه في تسيير شؤونه.

لذلك كان المغرب مع عدة محطات إصلاحية دستورية وقانونية وتدبيرية، أحدثت تحولات كبرى على مستوى توزيع الاختصاصات والسلطات لصالح الهيئات المنتخبة التي يتولى رؤساؤها المهام التنفيذية والتنظيمية، بذلك لم يعد للجماعة دور إداري صرف يقتصر على إنجاز بعض الوثائق والخدمات الإدارية، بل نجددورها امتد إلى القيام بالأشغال والأعمال التي تدخل في مجال تنميتها والارتقاء بدورها الاقتصادي والاجتماعي.

هذا ويعتبر مفهوم التنمية الترابية من المفاهيم التي احتدم النقاش حولها بالنسبة للمجتمعات النامية، لكونه ما زال محاطا بكثير من الغموض من حيث مضمونه وتعريفه. أما تداوله، فإذا كان مصطلح التنمية قد انتشر مند بداية حصول الدول المغاربية على استقلالها السياسي، فإن مفهوم التنمية الترابية قد أصبح مؤخرا هو الأكثر تداولا من قبل الأفراد والهيئات الحكومية، باعتباره الوسيلة التي من خلالها تستطيع تلك الدول مواجهة عوامل التخلف وإزاحة كل المعوقات التي تحول دون البثاق الإمكانيات الذاتية الكامنة داخلها، أما بالنسبة للمقاربة الترابية للمسألة التنموية، فالمقصود بها هو إسناد الدولة إلى الفاعلين المحليين (وخاصة الجماعات الترابية ) مسؤولية الانتقال والارتقاء بالمواطنين من مستوى معين إلى مستوى أفضل وأحسن إداريا واجتماعيا واقتصاديا بالخصوص.

لقد اتجهت جميع الدول، ومن بينها المغرب نحو إرساء دعائم الإدارة المحلية، وتكريس التنمية الترابية ونهج أساليب التنظيم الإداري الحديثة، والمتمثلة أساسا في اللامركزية إلى جانب اللاتركيز، ولم تأت تلك الأهمية لهذين الأسلوبين بمحض الصدفة، ولا من فراغ، خاصة في الدول النامية، بل نتيجة حتمية لتطورات وطنية ودولية أملتها ظروف ومعطيات معينة، استوجبت إحداث وحدات ترابية مبادرة ونشيطة وفعالة وساهرة على التدبير الشأن العام المحلي ومساهمة في تحقيق التنمية الترابية.

وهكذا بعد أن فشلت المقاربة المركزية في تكريس التنمية الشمولية المستدامة والمنشودة، اتجهت أغلب الدول نحو المصلين وجعلت منه جزء من حركة عامة قوامها اللامركزية التي اعتبرت مند الاستقلال من المدخلات الأساسية للمنظومة التنموية الحديثة، وهي وسيلة لتحديث التدبير العمومي المغربي، ووصفة لمعالجة اختلالات التنمية، وذلك من خلال ضمان القرب والفعالية والتوازن بين حضور السلطة العامة للدولة وإقرار الحريات للمواطنين في سياق البحث عن التنمية الترابية كبديل للمقاربة المركزية والأحادية.

وإذا كانت فترة التسعينات والعشرية الأولى من الألفية الثالثة تعتبر مرحلة للإصلاح والاتجاه نحو التنمية الترابية بامتياز، حيث عرفت الإدارة المحلية إصلاحات عدة على جميع الأصعدة والمستويات (خاصة في شقها المتعلق باللامركزية) فإن الفترة الراهنة وبعد كل التجارب التي راكمها المغرب مند الاستقلال، يبدو أن الدولة أضحت أكثر حرصا على تكريس التنمية الترابية، وتبويئها المكانة الوازنة في منظومة التدبير العمومي المغربي.

ولا شك هنا أن الاتجاه نحو الجهوية المتقدمة في المغرب كمدخل للحكامة الترابية بما يفرضه ذلك من إصلاحات بنيوية عميقة لابد من القيام بها في سياسة الدولة وهياكلها، لأبرز دليل على أولوية وسمو مكانة التنمية الترابية في منظومة التدبير العمومي.

وقصد تأهيل دور الجماعات في مجال التنمية، فقد كانت هناك محاولات النهج سياسة إصلاحية تدرجية متواترة للمستوى الترابي منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، ورغم ثغراتها المتعددة فإن المقاربة الترابية للتنمية كانت ولا تزال تحتل مكانة خاصة في منظومة التدبير التدبير العمومي المغربي وهو ما أصبح مرشحا للتزايد بعد دخول الألفية الثالثة، فالمغرب وبعد أن دخل مرحلة الأوراش الكبرى للمشاريع المهيكلة، أصبح مدعوا أكثر من أي وقت مضى إلى نهج سياسة محكمة في مجال اللامركزية، سياسة قوامها التعاون، وإشراك المجتمع المدني، والمواطنين في الشأن المحلي، أي بلوغ ما يسمى " بالحكامة الترابية".

لا شك أن الدور التنموي الذي قامت به الجماعات الترابية على مستوى الممارسة، وعلى أرض الواقع منذ إحداثها لا يرقى بأي حال من الأحوال إلى ماهو موجود على مستوى الخطاب السياسي، بل لم يرق حتى إلى مستوى النصوص والمقتضيات القانونية التي صدرت تنظيما وتأطيرا لتلك الجماعات الترابية حيث ظلت تلك الفجة العميقة والصارخة قائمة بين هو كائن وماهو ممكن، وإذا كانت متعددة هي الأسباب والعوامل التي ساهمت في ضعف ما حققته الجماعات الترابية، في إطار دورها التنموي على مستوى الممارسة فإن الإشكال القانوني يأتي في مقدمة تلك الصعوبات.

إن وظيفة التنمية المحلية التي أصبحت تقوم بها الجماعات المحلية ليست بتلك العملية السهلة. بل إنها تتوقف على عدة شروط لكي تعطي النتائج الإيجابية وتتلخص هذه الشروط في توفير الوسائل المالية والبشرية وكذلك الدراسات اللازمة للتخطيط لها، كما أن الجانب الاقتصادي لوظيفة التنمية المحلية يتطلب إنعاش الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وذلك بتحريك الموارد والطاقات، وبالتالي ابتكار أساليب ومناهج حديثة لتطبيق المفاهيم الجديدة الاقتصادية في ميدان تدبير المرافق الجماعية الاقتصادية وذلك حتى تكون لها مردودية بالنسبة للجماعة وبالتالي يستفيد منها سكانها.

لا شك أن الاختلالات التي راكمتها الممارسة الجماعية لمدة تقارب عن ستة عقود والتي ترتبط أساسا بغياب الحكامة وسوء التدبير وبالإصلاحات الجزئية أو بالحلول الترقيعية، وهذا يبرز أن سياسة التنمية الترابية لا زالت في حاجة إلى إصلاح حقيقي، إلى إستراتيجية شمولية، بحيث ينبغي إعادة النظر في ما من شأنه أن يحول دون قيام سياسة فعالة في مجال التنمية الترابية، والتي في معظمها تبقى مرتبطة بالإرادة والعنصر البشري.

إن محاولة تجاوز مظاهر العجز والفساد جعل من مطالب الحكامة الجيدة ضرورة ملحة نتيجة التحولات التي عرفتها عملية اتخاذ القرار، وكجزء من التحولات العميقة والشاملة والمتسارعة التي يعيشها العالم اليوم، إذ أصبحت استراتيجية الحكامة أمر في غاية الأهمية لما تتطلبه من تكامل الأدوار بين الدولة والهيئات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني وكذا القطاع الخاص من أجل تحقيق تنمية فعالة، وإعادة صياغة نظام إداري واقتصادي وسياسي وفق مفاهيم: الشفافية، المسؤولية، دولة القانون، اللامركزية والتنسيق، ثم التنافسية وهذه مفاهيم وآليات متضمنة في الحكامة الجيدة، وقادرة على إعادة الثقة في دور المؤسسات المحلية والوطنية ومكانة الدولة ومسؤوليتها في تحقيق الرهان التنموي الشامل.

إن تحقيق التنمية المحلية في سياقها العام تستدعي توفر شروط معينة يمكن إجمالها فيما يلي:

- وجود هينات محلية فعالة تتقاسم الاختصاصات التنموية مع الدولة، أي وجود سلطة محلية مستقلة الاختصاص عن الدولة ومزودة بالإمكانات القانونية والبشرية والمالية الكافية؛

- وجود مصالح ومتطلبات للساكنة المحلية؛

- اعتماد المقاربة المندمجة والمقاربة التشاركية باعتبارهما وسيلتين تسمحان بتعدد الفاعلين تدخلهم وفقا للتشخيص التشاركي لاحتياجات الساكنة المحلية.

 

انطلاقا من ذلك، يمكن القول أن من اجل كسب رهان التنمية الترابية لابد من تعبئة وتضافر جهود كل الفاعلين المحليين الرسميين وغير الرسميين، لاعتبار التنمية الترابية هي عملية متكاملة ومندمجة تأخذ بعين الاعتبار المحيط والاعتبارات السوسيو اقتصادية والاختلالات المجالية، وذلك في إطار من التكامل والتشارك، بين كل المتدخلين، فالهدف من التنمية الترابية هو العمل على تحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجماعات الترابية، عن طريق العمليات التي توجد بين جهود سكان تلك الجماعات وجهود السلطات الإدارية في إطار التعاون، والتكامل من أجل حياة أفضل للمواطنين .

إن مقاربة محددات ومقومات التنمية الترابية في النموذج المغربي، لا يمكن استيعابها إلا من خلال الوقوف على مكانة التنمية الترابية في منظومة التدبير العمومي المغربي، ثم أيضا من خلال التعرف على أبرز معيقات وإكراهات التنمية في ظل اللامركزية الترابية بالمغرب، وذلك لكي تتضح الطريق الصحيح نحو معرفة الإشكالية الحقيقية لنظام اللامركزية بالمغرب.

إن الإشكالات التي يطرحها موضوع التنمية الترابية أو التنمية بشكل عام، تتطلب البحث في الأسباب الكفيلة بإرساء جماعات حضرية وقروية تواكب

أوراش التنمية وقادرة على الاستجابة لحاجيات المواطنين، وكذلك البحث في المقاربات الحديثة في التدبير الحديث والكفيلة بالارتقاء بدور الجماعات والنخب المسيرة لها .

وهكذا وانطلاقا مما سبق يسعى هذا المقال إلى الإجابة على الإشكاليات الأساسية التالية:

أي أدوار للجماعات في سياسة التنمية الترابية وفق القانون التنظيمي الجديد؟

وماهي أهم الأكراهات والتحديات الحقيقية التي لازالت تعيشها الجماعات وتقف حاجرا أمام التنمية؟

إلى أي حد ستكون النخب المحلية القائمة على تدبير الجماعات قادرة على أن تتماشى مع هذه القوانين المتقدمة في مجال اللامركزية وأن تبلور سياسة تنموية مندمجة وفق مقاربة تشاركية تشرك المواطن في ساسة التنمية الترابية؟.

ثم ماهي أهم المداخل الممكنة للنهوض والارتقاء بالجماعات للعب أدوارها التنموية؟

المبحث الأول : الجماعات بالمغرب، التعثور والمسار، الأدوار التنموية

إن التطور الذي عرفة المغرب في مسلسل اللامركزية بدءا بصدور أول میثاق جماعي سنة 1976 وصولا إلى صدور القانون التنظيمي رقم  114.13 في 7 يوليو 2015، أفرز فاعلا أساسيا على مستوى التنمية ألا وهي المجالس الجماعية الحضرية والقروية، حيث أصبحت هذه الأخيرة الممثل الرئيسي للساكنة ومتطلباتها، والمجسد الفعلي لتصوراتها والأداة الفعلية في إبلاغها ونقلها إلى السلطات المركزية، كما أنه يكرس الطابع السياسي والتدبيري القوة الاقتراحية والتنفيذية في تفعيل الإدارة والحكم المحليين.

وفي هذا السياق سأحاول من خلال هذا المبحث الوقوف على دور الجماعات الترابية الحضرية والقروية في التنمية الترابية، من خلال إبراز أولا التطور التاريخي الذي عرفه نظام اللامركزية ببلادنا (المطلب الثاني)، وثانيارصد علاقة هذه الجماعات بالتنمية الترابية، وذلك بالوقوف على أهم أدوارها التنموية المطلب الثاني).

المطلب الأول : مسار تطور اللامركزية بالمغرب

وقد عرف المغرب انطلاق الاهتمام بالجماعات واللامركزية منذ الفترات الأولى من الاستقلال، وتجلى هذا في ظهير 23 يونيو 1960، وهو يعتبر التجربة الأولى في اعتماد نظام اللامركزية في المغرب المستقل، والنظام الجماعي الأولي بصلاحيات محدودة وجهاز تنفيذي مزدوج، وموارد وإمكانيات محدودة وحضور قوي لسلطة الوصاية، حيث حدد اختصاصات المجالس المنتخبة من جهة والسلطة المحلية من جهة أخرى، كما أحدث نوعين من الجماعات وهي الجماعات التي تتشكل من البلديات والمراكز المستقلة، والجماعات القروية.

يمكن القول أن هذا الظهير کرس نظام المركزية من خلال الاحتفاظ بجل الصلاحيات التقريرية والتدبيرية لرجل السلطة المحلية، ووسع من سلطات الوصاية، أشرقي وبالتالي حد من دور ممثلي السكان في تدبير الشأن المحلي مما جعل المجالس الجماعية التي تكونت بعد انتخابات 1960 ذات أدوار استشارية فقط، ولم تساهم بشكل فعلي في عمليات التدبير والتنمية التي أريدت منها.

ولعل أهم ما يميز تلك المرحلية هو طابعها التسييري فقط، أما الطابع التنموي فقد كان ضعيفا، إن لم يكن منعدما، وذلك لاعتبارات، عدة كما ذكرنا سابقا، وأبرزها الإشكال القانوني، وهكذا في ظل تلك الظروف جاء ظهير 30 شتنبر 1976 ليتجاوز بعضا من الاكرهات المسجلة في السابق، حيث عمل على تقوية اللامركزية بالمغرب، حيث اعتبر آنذاك بمثابة ثورة قانونية على مستوى تقوية دور الجماعات في تدبير الشأن العام المحلي، ففي ظل هذا الظهير تم الارتقاء بالجماعة إلى مستوى فاعل اقتصادي واجتماعي وثقافي أساسي بجانب الدولة والمؤسسات العمومية والقطاع الخاص. كما عمل على توسيع المهام التنموية والصلاحيات التي أنيطت بالمجلس الجماعي، ومنحه اختصاصات واسعة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما تم تخويل رئيس المجلس الجزء الأكبر من الاختصاصات التي كانت بيد السلطة المحلية.

وبعد سنوات من التطبيق، تم توجيه عدة انتقادات لهذه التجربة، لاسيما أن النص القانوني عمر أزيد من ربع قرن من الزمن، فكانت المشاكل متعددة والاختلالات كثيرة، أبرزها غموض المقتضيات القانونية وتشتتها، إضافة إلى إشكالية الحساب الإداري، الوصاية، الشرطة الإدارية والمرافق العامة.



التالي
تعديل
الجماعات و تدبير التنمية الترابية بالمغرب -- التحديات والرهانات
باحث في العلوم القانونية

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  • غير معرف24 أبريل 2024 في 8:03 م

    Younessmoutaabid23@gmail.com

    حذف التعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent