recent
أخبار ساخنة

الجماعات و تدبير التنمية الترابية بالمغرب -- التحديات والرهانات

الجماعات و تدبير التنمية الترابية بالمغرب -- التحديات والرهانات


مقدمة

في خضم التحولات الكبرى التي تشهدها بنيات الدولة وتجدد أدوارها، وفي ظل تراجع وظيفتها التنموية وفي إطار ما يعرف بدولة التخلي أو دولة الحد الأدنى، مقابل تنامي دور الجماعات الترابية، لدرجة جعلت بعض الباحثين يقول بأنه إذا كان القرن العشرين عرف قوة وهيمنة الدولة وإنشاء المقاولات والمنشآت الصناعية والتجارية،

فإن القرن الحادي والعشرين سيعرف تعاظم دور الجماعات المحلية، من خلال هذا التطور والتقدم المستمر، وبالأخص في الوسائل التكنولوجية، أصبحت القوة التنافسية تقاس بمدى القدرة على الإبداع والابتكار والتجديد الذي يتماشى في نفس الوقت مع متطلبات عولمة الأسواق، فتعالت بذلك الدعوة إلى تطوير النظام اللامركزي، ونظام اللاتمركز واللذان يستندان على الشرعية الإدارية والعقلانية والقانونية، وذلك بتبني منظور جديد ومقاربة مغايرة تتوخى البعد التدبيري، من خلال ترسيخ مفاهيم "التنمية الترابية" "إدارة القرب"، "الحكامة الجيدة " التدبير التشاركي " "التخطيط الاستراتيجي" " الذكاء الترابي" "الجماعة المقاولة" " التدبير الحر".

من خلال ذلك أصبحت المقاربة الترابية، تحتل أهمية قصوى من أجل دعم التنمية الشاملة والمستدامة، وهو ما جعل إدارة التراب المحلي تشكل ميدانا خصبا للاجتهاد من أجل تطوير أفضل السبل والوسائل الكفيلة للنهوض بالتنمية المحلية.

لقد أصبحت الجماعات الترابية إحدى المحددات الرئيسية للتدخلات العمومية في مختلف مظاهر تدبير الشؤون العامة الترابية بالمغرب، ولعل تلك الأهمية لم تأت بمحض الصدفة ولا من فراغ، وفرضت هذا الدور الطلائعي للجماعات وللإدارة المحلية عموميا. فتنمويا كانت الدولة المركزية قد فشلت في تحقيق أهدافها، سياسيا لم تعد الدولة المركزية قادرة على إرساء قواعد الديمقراطية، التي تقتضي القرب من المواطن وإشراكه في تسيير شؤونه.

لذلك كان المغرب مع عدة محطات إصلاحية دستورية وقانونية وتدبيرية، أحدثت تحولات كبرى على مستوى توزيع الاختصاصات والسلطات لصالح الهيئات المنتخبة التي يتولى رؤساؤها المهام التنفيذية والتنظيمية، بذلك لم يعد للجماعة دور إداري صرف يقتصر على إنجاز بعض الوثائق والخدمات الإدارية، بل نجددورها امتد إلى القيام بالأشغال والأعمال التي تدخل في مجال تنميتها والارتقاء بدورها الاقتصادي والاجتماعي.

هذا ويعتبر مفهوم التنمية الترابية من المفاهيم التي احتدم النقاش حولها بالنسبة للمجتمعات النامية، لكونه ما زال محاطا بكثير من الغموض من حيث مضمونه وتعريفه. أما تداوله، فإذا كان مصطلح التنمية قد انتشر مند بداية حصول الدول المغاربية على استقلالها السياسي، فإن مفهوم التنمية الترابية قد أصبح مؤخرا هو الأكثر تداولا من قبل الأفراد والهيئات الحكومية، باعتباره الوسيلة التي من خلالها تستطيع تلك الدول مواجهة عوامل التخلف وإزاحة كل المعوقات التي تحول دون البثاق الإمكانيات الذاتية الكامنة داخلها، أما بالنسبة للمقاربة الترابية للمسألة التنموية، فالمقصود بها هو إسناد الدولة إلى الفاعلين المحليين (وخاصة الجماعات الترابية ) مسؤولية الانتقال والارتقاء بالمواطنين من مستوى معين إلى مستوى أفضل وأحسن إداريا واجتماعيا واقتصاديا بالخصوص.

لقد اتجهت جميع الدول، ومن بينها المغرب نحو إرساء دعائم الإدارة المحلية، وتكريس التنمية الترابية ونهج أساليب التنظيم الإداري الحديثة، والمتمثلة أساسا في اللامركزية إلى جانب اللاتركيز، ولم تأت تلك الأهمية لهذين الأسلوبين بمحض الصدفة، ولا من فراغ، خاصة في الدول النامية، بل نتيجة حتمية لتطورات وطنية ودولية أملتها ظروف ومعطيات معينة، استوجبت إحداث وحدات ترابية مبادرة ونشيطة وفعالة وساهرة على التدبير الشأن العام المحلي ومساهمة في تحقيق التنمية الترابية.

وهكذا بعد أن فشلت المقاربة المركزية في تكريس التنمية الشمولية المستدامة والمنشودة، اتجهت أغلب الدول نحو المصلين وجعلت منه جزء من حركة عامة قوامها اللامركزية التي اعتبرت مند الاستقلال من المدخلات الأساسية للمنظومة التنموية الحديثة، وهي وسيلة لتحديث التدبير العمومي المغربي، ووصفة لمعالجة اختلالات التنمية، وذلك من خلال ضمان القرب والفعالية والتوازن بين حضور السلطة العامة للدولة وإقرار الحريات للمواطنين في سياق البحث عن التنمية الترابية كبديل للمقاربة المركزية والأحادية.

وإذا كانت فترة التسعينات والعشرية الأولى من الألفية الثالثة تعتبر مرحلة للإصلاح والاتجاه نحو التنمية الترابية بامتياز، حيث عرفت الإدارة المحلية إصلاحات عدة على جميع الأصعدة والمستويات (خاصة في شقها المتعلق باللامركزية) فإن الفترة الراهنة وبعد كل التجارب التي راكمها المغرب مند الاستقلال، يبدو أن الدولة أضحت أكثر حرصا على تكريس التنمية الترابية، وتبويئها المكانة الوازنة في منظومة التدبير العمومي المغربي.

ولا شك هنا أن الاتجاه نحو الجهوية المتقدمة في المغرب كمدخل للحكامة الترابية بما يفرضه ذلك من إصلاحات بنيوية عميقة لابد من القيام بها في سياسة الدولة وهياكلها، لأبرز دليل على أولوية وسمو مكانة التنمية الترابية في منظومة التدبير العمومي.

وقصد تأهيل دور الجماعات في مجال التنمية، فقد كانت هناك محاولات النهج سياسة إصلاحية تدرجية متواترة للمستوى الترابي منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، ورغم ثغراتها المتعددة فإن المقاربة الترابية للتنمية كانت ولا تزال تحتل مكانة خاصة في منظومة التدبير التدبير العمومي المغربي وهو ما أصبح مرشحا للتزايد بعد دخول الألفية الثالثة، فالمغرب وبعد أن دخل مرحلة الأوراش الكبرى للمشاريع المهيكلة، أصبح مدعوا أكثر من أي وقت مضى إلى نهج سياسة محكمة في مجال اللامركزية، سياسة قوامها التعاون، وإشراك المجتمع المدني، والمواطنين في الشأن المحلي، أي بلوغ ما يسمى " بالحكامة الترابية".

لا شك أن الدور التنموي الذي قامت به الجماعات الترابية على مستوى الممارسة، وعلى أرض الواقع منذ إحداثها لا يرقى بأي حال من الأحوال إلى ماهو موجود على مستوى الخطاب السياسي، بل لم يرق حتى إلى مستوى النصوص والمقتضيات القانونية التي صدرت تنظيما وتأطيرا لتلك الجماعات الترابية حيث ظلت تلك الفجة العميقة والصارخة قائمة بين هو كائن وماهو ممكن، وإذا كانت متعددة هي الأسباب والعوامل التي ساهمت في ضعف ما حققته الجماعات الترابية، في إطار دورها التنموي على مستوى الممارسة فإن الإشكال القانوني يأتي في مقدمة تلك الصعوبات.

إن وظيفة التنمية المحلية التي أصبحت تقوم بها الجماعات المحلية ليست بتلك العملية السهلة. بل إنها تتوقف على عدة شروط لكي تعطي النتائج الإيجابية وتتلخص هذه الشروط في توفير الوسائل المالية والبشرية وكذلك الدراسات اللازمة للتخطيط لها، كما أن الجانب الاقتصادي لوظيفة التنمية المحلية يتطلب إنعاش الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وذلك بتحريك الموارد والطاقات، وبالتالي ابتكار أساليب ومناهج حديثة لتطبيق المفاهيم الجديدة الاقتصادية في ميدان تدبير المرافق الجماعية الاقتصادية وذلك حتى تكون لها مردودية بالنسبة للجماعة وبالتالي يستفيد منها سكانها.

لا شك أن الاختلالات التي راكمتها الممارسة الجماعية لمدة تقارب عن ستة عقود والتي ترتبط أساسا بغياب الحكامة وسوء التدبير وبالإصلاحات الجزئية أو بالحلول الترقيعية، وهذا يبرز أن سياسة التنمية الترابية لا زالت في حاجة إلى إصلاح حقيقي، إلى إستراتيجية شمولية، بحيث ينبغي إعادة النظر في ما من شأنه أن يحول دون قيام سياسة فعالة في مجال التنمية الترابية، والتي في معظمها تبقى مرتبطة بالإرادة والعنصر البشري.

إن محاولة تجاوز مظاهر العجز والفساد جعل من مطالب الحكامة الجيدة ضرورة ملحة نتيجة التحولات التي عرفتها عملية اتخاذ القرار، وكجزء من التحولات العميقة والشاملة والمتسارعة التي يعيشها العالم اليوم، إذ أصبحت استراتيجية الحكامة أمر في غاية الأهمية لما تتطلبه من تكامل الأدوار بين الدولة والهيئات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني وكذا القطاع الخاص من أجل تحقيق تنمية فعالة، وإعادة صياغة نظام إداري واقتصادي وسياسي وفق مفاهيم: الشفافية، المسؤولية، دولة القانون، اللامركزية والتنسيق، ثم التنافسية وهذه مفاهيم وآليات متضمنة في الحكامة الجيدة، وقادرة على إعادة الثقة في دور المؤسسات المحلية والوطنية ومكانة الدولة ومسؤوليتها في تحقيق الرهان التنموي الشامل.

إن تحقيق التنمية المحلية في سياقها العام تستدعي توفر شروط معينة يمكن إجمالها فيما يلي:

- وجود هينات محلية فعالة تتقاسم الاختصاصات التنموية مع الدولة، أي وجود سلطة محلية مستقلة الاختصاص عن الدولة ومزودة بالإمكانات القانونية والبشرية والمالية الكافية؛

- وجود مصالح ومتطلبات للساكنة المحلية؛

- اعتماد المقاربة المندمجة والمقاربة التشاركية باعتبارهما وسيلتين تسمحان بتعدد الفاعلين تدخلهم وفقا للتشخيص التشاركي لاحتياجات الساكنة المحلية.

 

انطلاقا من ذلك، يمكن القول أن من اجل كسب رهان التنمية الترابية لابد من تعبئة وتضافر جهود كل الفاعلين المحليين الرسميين وغير الرسميين، لاعتبار التنمية الترابية هي عملية متكاملة ومندمجة تأخذ بعين الاعتبار المحيط والاعتبارات السوسيو اقتصادية والاختلالات المجالية، وذلك في إطار من التكامل والتشارك، بين كل المتدخلين، فالهدف من التنمية الترابية هو العمل على تحسين الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجماعات الترابية، عن طريق العمليات التي توجد بين جهود سكان تلك الجماعات وجهود السلطات الإدارية في إطار التعاون، والتكامل من أجل حياة أفضل للمواطنين .

إن مقاربة محددات ومقومات التنمية الترابية في النموذج المغربي، لا يمكن استيعابها إلا من خلال الوقوف على مكانة التنمية الترابية في منظومة التدبير العمومي المغربي، ثم أيضا من خلال التعرف على أبرز معيقات وإكراهات التنمية في ظل اللامركزية الترابية بالمغرب، وذلك لكي تتضح الطريق الصحيح نحو معرفة الإشكالية الحقيقية لنظام اللامركزية بالمغرب.

إن الإشكالات التي يطرحها موضوع التنمية الترابية أو التنمية بشكل عام، تتطلب البحث في الأسباب الكفيلة بإرساء جماعات حضرية وقروية تواكب

أوراش التنمية وقادرة على الاستجابة لحاجيات المواطنين، وكذلك البحث في المقاربات الحديثة في التدبير الحديث والكفيلة بالارتقاء بدور الجماعات والنخب المسيرة لها .

وهكذا وانطلاقا مما سبق يسعى هذا المقال إلى الإجابة على الإشكاليات الأساسية التالية:

أي أدوار للجماعات في سياسة التنمية الترابية وفق القانون التنظيمي الجديد؟

وماهي أهم الأكراهات والتحديات الحقيقية التي لازالت تعيشها الجماعات وتقف حاجرا أمام التنمية؟

إلى أي حد ستكون النخب المحلية القائمة على تدبير الجماعات قادرة على أن تتماشى مع هذه القوانين المتقدمة في مجال اللامركزية وأن تبلور سياسة تنموية مندمجة وفق مقاربة تشاركية تشرك المواطن في ساسة التنمية الترابية؟.

ثم ماهي أهم المداخل الممكنة للنهوض والارتقاء بالجماعات للعب أدوارها التنموية؟

المبحث الأول : الجماعات بالمغرب، التعثور والمسار، الأدوار التنموية

إن التطور الذي عرفة المغرب في مسلسل اللامركزية بدءا بصدور أول میثاق جماعي سنة 1976 وصولا إلى صدور القانون التنظيمي رقم  114.13 في 7 يوليو 2015، أفرز فاعلا أساسيا على مستوى التنمية ألا وهي المجالس الجماعية الحضرية والقروية، حيث أصبحت هذه الأخيرة الممثل الرئيسي للساكنة ومتطلباتها، والمجسد الفعلي لتصوراتها والأداة الفعلية في إبلاغها ونقلها إلى السلطات المركزية، كما أنه يكرس الطابع السياسي والتدبيري القوة الاقتراحية والتنفيذية في تفعيل الإدارة والحكم المحليين.

وفي هذا السياق سأحاول من خلال هذا المبحث الوقوف على دور الجماعات الترابية الحضرية والقروية في التنمية الترابية، من خلال إبراز أولا التطور التاريخي الذي عرفه نظام اللامركزية ببلادنا (المطلب الثاني)، وثانيارصد علاقة هذه الجماعات بالتنمية الترابية، وذلك بالوقوف على أهم أدوارها التنموية المطلب الثاني).

المطلب الأول : مسار تطور اللامركزية بالمغرب

وقد عرف المغرب انطلاق الاهتمام بالجماعات واللامركزية منذ الفترات الأولى من الاستقلال، وتجلى هذا في ظهير 23 يونيو 1960، وهو يعتبر التجربة الأولى في اعتماد نظام اللامركزية في المغرب المستقل، والنظام الجماعي الأولي بصلاحيات محدودة وجهاز تنفيذي مزدوج، وموارد وإمكانيات محدودة وحضور قوي لسلطة الوصاية، حيث حدد اختصاصات المجالس المنتخبة من جهة والسلطة المحلية من جهة أخرى، كما أحدث نوعين من الجماعات وهي الجماعات التي تتشكل من البلديات والمراكز المستقلة، والجماعات القروية.

يمكن القول أن هذا الظهير کرس نظام المركزية من خلال الاحتفاظ بجل الصلاحيات التقريرية والتدبيرية لرجل السلطة المحلية، ووسع من سلطات الوصاية، أشرقي وبالتالي حد من دور ممثلي السكان في تدبير الشأن المحلي مما جعل المجالس الجماعية التي تكونت بعد انتخابات 1960 ذات أدوار استشارية فقط، ولم تساهم بشكل فعلي في عمليات التدبير والتنمية التي أريدت منها.

ولعل أهم ما يميز تلك المرحلية هو طابعها التسييري فقط، أما الطابع التنموي فقد كان ضعيفا، إن لم يكن منعدما، وذلك لاعتبارات، عدة كما ذكرنا سابقا، وأبرزها الإشكال القانوني، وهكذا في ظل تلك الظروف جاء ظهير 30 شتنبر 1976 ليتجاوز بعضا من الاكرهات المسجلة في السابق، حيث عمل على تقوية اللامركزية بالمغرب، حيث اعتبر آنذاك بمثابة ثورة قانونية على مستوى تقوية دور الجماعات في تدبير الشأن العام المحلي، ففي ظل هذا الظهير تم الارتقاء بالجماعة إلى مستوى فاعل اقتصادي واجتماعي وثقافي أساسي بجانب الدولة والمؤسسات العمومية والقطاع الخاص. كما عمل على توسيع المهام التنموية والصلاحيات التي أنيطت بالمجلس الجماعي، ومنحه اختصاصات واسعة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، كما تم تخويل رئيس المجلس الجزء الأكبر من الاختصاصات التي كانت بيد السلطة المحلية.

وبعد سنوات من التطبيق، تم توجيه عدة انتقادات لهذه التجربة، لاسيما أن النص القانوني عمر أزيد من ربع قرن من الزمن، فكانت المشاكل متعددة والاختلالات كثيرة، أبرزها غموض المقتضيات القانونية وتشتتها، إضافة إلى إشكالية الحساب الإداري، الوصاية، الشرطة الإدارية والمرافق العامة.



<><>

وأمام هذا الوضع، ولتفادي الاشكالات القانونية التي عرفها ظهير 1976 تم إصدار قانون جديد هو قانون 78.11 المتعلق بالميثاق الجماعي، حيث أعطى للمجالس الجماعية سلطات تقريرية وتدبيرية واسعة في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهكذا فقد مكن هذا القانون من جعل الجماعات المحلية فرض نفسها كفاعل محوري ومركزي في تنمية التراب وجعله محركا للتنمية، وقد میز المشرع بين اختصاصات ذاتية واختصاصات قابلة للنقل وأخرى استشارية كما اعتمد نظام وحدة المدينة والتي تهدف إلى توحيد القرار المحلي وترشيد الإمكانيات وتوزيع الموارد المتوفرة للحد من التناقضات المجالية والتعاطي مع التراب ككل في إطار رؤية شمولية مندمجة.

إضافة إلى ذلك، فقد جاء الميثاق الجماعي بعدة مستجدات على مستوى الاختصاصات والرقابة وعلاقة الشراكة والتعاقد مع الدولة ومؤسساتها ومع القطاع الخاص، ومستجدات في مبادئ وقواعد التسيير والتدبير والحكامة عموما. إلا أنه في المقابل، رغم تلك المستجدات التي جاء بها القانون 78.00، مقارنة مع ما سبق، ورغم التطور الذي عرفته الجماعات الحضرية والقروية في خضمه، فإن تزايد الحاجيات الساكنة ومتطلباتها من التنمية، فرضت تعديل هذا النص القانوني، بمقتضى القانون 17.08 الصادر بتاريخ 18 فبراير 2009. الذي حاول أن يطور نوعيا في التنظيم الجماعي، وذلك من خلال دعم آليات التدبير ونجاعتها الإدارية، وتقوية الآليات الخاصة بالتعاون والشراكة المحلية، علاوة على تحسين الحكامة المحلية وتطويرها، والرفع من فعالية الإدارة الجماعية تحديثها، وتدعيم نظام وحدة نظام المدينة، وعصرنة التدبير المالي للجماعات المحلية.

لكن على الرغم من تطور اللامركزية والنصوص القانونية المنظمة لها، فقد ظلت تعتري الجماعات العديد من الانحرافات مند التنظيم الجماعي 2009 تاریخ صدور ذلك القانون، فكان لابد من صدور القانون التنظيمي للجماعات، التجاوز سلبيات المقتضيات القانونية السابقة.

وهكذا فقد صدر القانون التنظيمي رقم114.13  المتعلق بالجماعات الصادر بتاريخ 07 يوليو 2015، وهي السنة التي يمكن اعتبارها تحولا نوعيا في مسار اللامركزية الترابية بالمغرب، لا على مستوى طبيعة النص القانوني النظم بل كذلك ما تضمنه وحمله من مستجدات تنظيمية وتدبيرية حديثة، وهو القانون الجماعي الذي يحمل صراحة مقومات وآليات التدبير الترابي العمومي الجديد، وهو تنزيل لما جاء به وتضمنه الدستور الجديدة لفاتح يوليو 2011 بخصوص هذه المقومات.

فالقانون التنظيمي السالف الذكر أناط بالجماعات مهام النهوض بخدمات القرب، كما أنه عمل على توسيع دور الجماعات في تحقيق التنمية وتشجيع المشاركة في الشأن المحلي، وتحقيق النجاعة في التدبير المحلي، وتنزيل مبادئ وقواعد الحكامة الجيدة المنصوص عليها في الدستور.

يتجلى من خلال هذا التطور الذي شهده تطر مسلسل اللامركزية ببلادنا أن المشرع المغربي عازم على بلورة فاعل أساسي في ميدان التدبير المحلي والتنمية الترابية، ألا وهي الجماعات الحضرية والقروية .

المطلب الثاني : الأدوار التنموية للجماعات

لقد أصبح للجماعات اختصاصات مهمة في تدبير شؤون التنمية الترابية، وبذلك لم يعد للجماعة دور إداري صرف يقتصر على إنجاز بعض الوثائق والخدمات الإدارية، بل نجد أن دورها امتد إلى القيام بالأشغال والأعمال التي تدخل في مجال تنميتها والارتقاء بدورها الاقتصادي والاجتماعي.

إن التصور الجديد للدور المنوط بالجماعة الترابية وفق القانون رقم 14-113 الجديد إضافة إلى الأدوار التقليدية، يقوم بالأساس على تنشيط الاقتصاد المحلي، وإنعاش الدورة الاقتصادية بالجماعة أصبح ياخذ حيزا مهما من اهتمامات المسؤولين والباحثين على حد سواء، وعلى هذا الأساس أصبح التوجه الاقتصادي الحديث ينبني على تمفصل الاقتصاد المحلي والوطني لتحقيق نمو متوازن بناء على سياسة إعداد التراب، وبذلك فإن السياسة التنموية الجادة التي تسعى إلى الرفع من المستوى المحلي، هي تلك التي تهدف إلى جعل الجماعات المحلية البنية الأساسية للتنمية، وقطب إشعاع اقتصادي واجتماعية.

الفرع الأول : الدور الاقتصادي للجماعات

لقد ساهمت أزمة الدولة المركزية بسبب تزايد النفقات العمومية وسوء التدبير وضعف المؤشرات الاقتصادية وانتشار الفقر والأمية والإقصاء الاجتماعي، في تراجع دورها الاقتصادي لفائدة الوحدات الترابية، أما بخصوص القطاع الخاص فإن توجيهه مرکزيا أبان عن قصور كبير في تحقيق نتائج ترابية ملموسة بخلاف إشراكه في إطار تضامني وما أبان عنه من نتائج واعدة.

فالجماعات الترابية مدعوة أكثر لتنشيط الحياة الاقتصادية المحلية ودخول عمار التنافسية والاستثمار والانفتاح على المبادرات والشراكات الخارجية المختلفة، ويبدو أن الرهان أكثر إلحاحا مع تنامي حاجيات اجتماعية ذات طابع ترابي كما هو الشأن بالنسبة لتوفير السكن وما يتطلبه ذلك من تجهيزات ومناطق للأنشطة الاقتصادية والإدارية والصناعية هي في تزايد مستمر باستمرار الامتداد المجالي للمدن.

إن نجاح التدبير الاقتصادي يمر حتما عبر توفير شروط التدخلات الاقتصادية إما على شكل شراكات أو صيغ تعاونية أخرى، ومن هنا تم استبدال نظام النقابات بنظام المجموعات الجماعات التي يمكن أن تبين التجربة فعاليتها في معالجة المشاكل المشتركة بين الجماعات المعنية كما هو الحال بالنسبة لتدبير - المطارح العمومية وتوزيع الماء والكهرباء والنقل الحضري، ومن جهة ثانية فإن الشراكة مع القطاع الخاص في معالجة مشاكل محلية تعتبر صيغة مثلى للتغلب على هذه النوعية من المشاكل، حيث كان للمنعشين العقاريين دور مهم في توفير السكن اللائق.

ويمتد الدور الاقتصادي للجماعات الترابية إلى التعاون الدولي واستقطاب الاستثمارات الأجنبية كما بينت التجربة في الأقاليم الشمالية حيث نجحت بعض المدن في توفير مناصب شغل قارة عبر شراكات أجنبية فعالة في مجال السياحة والبناء .

فالجماعات أصبحت اليوم مطالبة بتشجيع وتطوير نظام الشراكة مع باقي الجماعات الترابية والدولية والقطاع الخاص والجمعيات المحلية، لمواجهة أعباء التجهيز وتدعيم الاقتصاد المحلي، ويتم ذلك من خلال تنمية وتجديد الرصيد العقاري للجماعات قصد إنجاز المشاريع التنموية في مختلف الميادين التجارية والصناعية والسياحية..، ويتعين في هذا الإطار مساعدة الجماعات المتدخلين العموميين والخواص المعنيين في الحصول على القطع الأرضية المعدة وذلك بأثمان تفضيلية، ووضع برنامج تهيئة لهذه الغاية، وسينتج عن تقليص أثمان الأراضي المعدة للمناطق الصناعية وأماكن الأنشطة تقليص تكلفة الاستثمار.

إن المناطق الصناعية تضطلع بدور حيوي في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي سواء على صعيد إنعاش الاقتصاد أو التشغيل بتراب الجماعة، وهذا ما دفع الجماعات الترابية إلى المشاركة في إعداد وتجهيز المناطق الصناعية، مستندة في ذلك إلى الاختصاصات الموكولة لها بمقتضى المادة 87 من القانون التنظيمي 113.14 . لقد أصبحت المجالات الترابية تسطر ضمن أولوياتها الاستراتيجية تهيئ المناطق الصناعية بتوفير جميع التجهيزات الضرورية بكل المعايير المطابقة للجودة في الخدمات، لجعل الجماعات قطبا اقتصاديا منافسا للفضاءات الترابية الأخرى.

لذا من الضروري تدخل الجماعات الترابية في الميدان الاقتصادي وذلك للمساهمة في تحريك الاقتصاد المحلي وتحقيق أعباء التنمية لتحقيق إقلاع حقيقي لهذه الوحدات الترابية من خلال توفير بنیات اقتصادية، فالانخراط في ركب العولمة لم يعد فقط انشغالا مركزيا لدى الدولة بل أصبح هاجسا يشغل بال الوحدات الترابية، مادامت قوة الدولة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي تقاس اليوم بقوة وتنافسية وحداتها الترابية.

إن اتساع نشاط الجماعات الترابية وتعدد مجالات تدخلها وتفاقم نفقاتها إلى جانب توسيع صلاحياتها سيمكن من تحقيق إنتاجية أكبر بفضل قدرتها على المنافسة والاستمرارية وتحقيق فائض مالي لتنمية المرافق الاجتماعية الأخرى.

وعليه، فإن انخراط الجماعات في شركات التنمية يعد محركا أساسيا التمكين الجماعات من تلبية الحاجيات المتزايدة بالشكل المطلوب بالسرعة الفائقة خصوصا وأن هذه الإمكانية ستمكن من استثمار أفضل للموارد المالية والإمكانيات الاقتصادية المتوفرة لدى الجماعات واستغلال الكفاءات والخبرات واستعمال التكنولوجيا المتطورة والتدبير الجيد للموارد التي يزخر بها القطاع الخاصة.

الفرع الثاني الدور الاجتماعي للجماعات

إن السعي إلى تلبية حاجيات السكان وتحسين ظروفهم المعيشية، تشكل إحدى الأولويات الأساسية لمحاور الاستراتيجية المحلية للتنمية، لضمان تحقيق هذا الهدف، فإن مشاركة السكان إلى جانب ممثليهم داخل الجماعات في تحديد الحاجيات ذات المنفعة، تعتبر عاملا أساسيا.

وعليه، تعتبر التنمية الاجتماعية للجماعات حلقة رئيسية، تدخل في نطاق استراتيجية متوسطة وبعيدة المدى، وتهدف إلى إقرار تنمية بشرية مستديمة وتقليص الفوارق الاجتماعية بين مختلف مكونات الإدارة المحلية، وذلك بالاعتماد على التآزر والتضامن الاجتماعي وعلى أساليب جديدة لإعادة توزيع ثمار النمو الاقتصادي، مع اللجوء إلى التعاون والشراكة ما بين الجماعات والقطاع الخاص والمجتمع المدني.

وتهدف التوجهات الأساسية للتنمية الاجتماعية للجماعات على المستوى المحلي بالخصوص إلى ما يلي؛

- تحسين الظروف الاجتماعية ومحاربة الفقر، خاصة بالوسط القروي وضواحي المدن، بإدماج السكان الأكثر احتياجا في التنمية، وذلك من خلال توسيع استفادة السكان المحتاجين من الخدمات الاجتماعية لاسيما في مجال محاربة الأمية والتربية والتطبيب والخدمات والتجهيزات الأساسية من ماء وإنارة وسكن لائق، علاوة على توفير فرص خاصة للشباب العاطلين وحاملي الشهادات العليا، وكذلك دعم وتقوية برامج الدعم والحماية الاجتماعية ودعم المحتاجين، عن طريق وضع سياسة تطوعية للتكافل الاجتماعية.

- تدعيم تدخلات الجماعات في ميدان السكن الاجتماعي ومحاربة السكن غير اللائق وتخصيص الرصيد العقارية الجماعي لهذه الغاية.

- تحسين خدمات النقل الحضري، بما في ذلك النقل المدرسي والجامعي وبناء دور للطالبات لأجل التخفيف من ظاهرة الهدر المدرسي، مع مطالبة الخواص بإعادة تنظيم قطاع النقل وفق شروط الاستغلال كما هي محددة في دفتر التحملات.

- إنعاش مبادرات الشغل، وذلك وفق مقاربة متعددة الأبعاد تهم في نفس الوقت الإشكالية الخاصة بتشجيع التنمية الاقتصادية وبالمبادرات الخاصة لدعم خلق فرص الشغل.

الفرع الثالث : الدور العقاري والتعميري الجماعات

لاشك أن العقار يلعب دورا حيويا في منظومة التنمية، على اعتبار أنه عامل إنتاج استراتيجي لكل القطاعات الحيوية ورافعة أساسية للتنمية المستدامة بمختلف أبعادها. فهو الوعاء الرئيسيي لتشجيع الاستثمار المنتج والمدر للدخل والموفر لفرص الشغل، كما يعتبر أرضية لانطلاق المشاريع الاستثمارية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والفلاحية والسياحية والخدماتية ... إلخ.

كما أن العقار هو وسيلة الدولة في مجال التعمير والتخطيط العمراني، و هو آلية أساسية لضمان حق المواطنين في السكن، وبالتالي فالعقار يساهم بدور فعال في تنفيذ. السياسات العمومية الرامية إلى تحسين ظروف عيش المواطنين ومحاربة الفقر والإقصاء، كما يساهم في الحركية التنموية، وذلك على ضوء التحولات الاقتصادية والديمغرافية المتسارعة التي يعرفها المغرب.

وعلى هذا الأساس، فقد أصبح دور الجماعات في تدبير وتنمية العقار دورا مهما، فالتنمية الشمولية، تتطلب توفير أوعية عقارية، قد تتوفر عليه أو تعمل على اقتنائه، إما باللجوء إلى مسطرة اقتناء الأراضي انطلاقا من ميزانيتها الخاصة بعد الحصول على موافقة سلطة الوصاية، إذ يشرع بالتفاوض مع الملاكين مباشرة وفي السهر على تسديد مبلغ الاقتناء بعد حصول الاتفاق بين الطرفين، ولا أحد يجادل في فائدة وإيجابية هذه الوسيلة، لكنها تتسم بالمحدودية، نظرا لضعف الاعتمادات المالية التي لابد من التعامل معها بنوع من الذكاء الاقتصادي، کالارتفاع الصاروخي لأسعار العقار، الذي زاد من محدودية السوق العقارية من جهة، وتفشي ظاهرة الحضارية العقارية من جهة ثانية.

ونظرا للعلاقة الجدلية بين العقار والإستثمار، أصبح من اللازم على الجماعات تکوین رصيد عقاري، يؤمن عملية الاستثمار والاستقرار السكاني، وهو ما يعرف بسياسة الاحتياط العقاري.

وعلى هذا الأساس فإن ثروة الجماعات تقاس بامتداد رصيدها العقاري وبقدرتها على صيانته وتنميته، ومدى سعيها لتكوين رصيد واحتیاط عقاري، من أجل توظيفه لخلق مشاريع تنموية في مختلف الميادين ويقصد بالاستثمار العقاري، تأهيل العقار وفق نموذج العقارات المحفظة، حيث أن التحفيظ العقاري أصبح في المقام الأول محركا للاقتصاد الوطني ومساهما في تأهيل الموارد البشرية العاملة في المجال العقاري، وعنصرا استراتيجيا في مجال التنمية، وركيزة أساسية في إعداد التراب الوطني، الذي تتوقف عليه استراتيجيات المخططات التنموية والسياسات العامة والخاصة.

إن الإرتقاء بأداء أدوار الوحدات الترابية في التنمية، وعلى رأسها الجماعات وجعلها كفاعل أساسيي ومتدخل في عملية التنمية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية إلى جانب الدولة، لازال تواجهها عدة معيقات وتحديات تحول دون أداء أدوراها على أكمل وجه، وهي تحديات مرتبطة أساسا بالحكامة والنخب المحلية أي الموارد البشرية والموارد المالية إلى جانب المشاكل القانونية.

المبحث الثاني: الجماعات بالمغرب، التحديات ورهانات التنمية الترابية.

 


الجماعات و تدبير التنمية الترابية بالمغرب -- التحديات والرهانات
باحث في العلوم القانونية

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  • غير معرف24 أبريل 2024 في 8:03 م

    Younessmoutaabid23@gmail.com

    حذف التعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent