الإطار العام للموضوع
يعتبر المرفق العمومي مظهرة لنشاط الدولة، وشكلا من أشكال تدخلها في الميدان الإقتصادي والإجتماعي، وذلك من أجل إشباع حاجات المواطنين باسم المصلحة العامة.
ومما لا شك فيه، أن المغرب قد نهج في السنوات الأخيرة مجموعة من الإصلاحات، هممت في جوهرها تحقيق المصالحة مع المواطن، أو بعبارة أخرى تجاوز إشكالية ما يصطلح عليه بأزمة المرفق العمومي.
لذلك نعتقد أن المشرع المغربي نظر إلى المرفق العمومي في دستور 2011 كأنه يعاني العديد من الإختلالات التي تمس بالدرجة الأولى حقوق المرتفقين، وتعيق أداء المرافق العمومية في تقديم خدماتها للجمهور، لذلك جاء بمجموعة من المبادئ التي تحكم سير المرفق العمومي قصد تجاوز بعض الإشكالات.
التطور التاريخي للموضوع:
بالنسبة للأصول التاريخية للمرفق العمومي، فحسبما هو مسطر في مختلف البحوث الفرنسية والعربية المتعلقة بالمرفق العام، فإن نشأة المرفق العام ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في فرنسا، أما بالنسبة للمغرب فإن نشأته كانت خلال فترة الحماية، حيث عملت فرنسا على نقل نموذجها الإداري للمغرب.
الإطار الخاص للموضوع:
ويعد صدور دستور 29 يوليوز 22011 بمثابة ثمرة لمجهودات الإصلاح التي عرفتها بلادنا، وكنتيجة لمجموعة من التراكمات والمتغيرات التي عرفها المجتمع المغربي، وجاء بمجموعة من الأساسيات، منها ما تمثل في التقنيات الجديدة للتدبير الإداري الحديث، بفعل التطورات التي طرأت على الأدوار والمهام المنوطة بالإدارة، باعتبارها الدعامة الأساسية للتغيير بكل أشكاله السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وذلك في إطار التحديث العميق للدولة، ووضع استراتجيات تشمل مجموع المكونات والفعاليات والمؤهلات، قصد الإعتماد على بعض الوسائل الكفيلة لتكييف الإدارة مع التحولات التي يعرفها العالم.
وقد خصص الدستور المغربي لسنة 2011 بابا كاملا وهو "الباب الثاني عشر" المعنون "بالحكامة الجيدة مبادئ عامة" حيث تمت دسترة مجموعة من المبادئ، تتعلق أساسا بحكامة المرافق العمومية، وتتجلى هذه المبادئ في (المساواة، الإنصاف، التزاهة، الحياد، الشفافية، الإستمرارية والولوجية...). وقد تضمن الباب السالف الذكر سبعة عشر فصلا من الفصل 154 إلى الفصل 171، والذي ينقسم إلى شقين، يتعلق الشق الأول منه بالمبادئ العامة التي تحكم سير المرفق العمومي، بينما الشق الثاني منه يتعلق بعمل المؤسسات و الهيئات التي تسهر على تفعيل تلك المبادئ وترسيخها في الإدارات العمومية. وقد أقر الدستور المبادئ المومأ إليها أعلاه، وأفرد لها بعض الفصول المتتالية، منها الفصل 154 و الفصل 155 و الفصل 156.
وهناك مبادئ أخرى متفرقة منصوص عليها في الدستور، منها حق المواطن في مرافق عامة فعالة، والحق في الولوج إلى المعلومة والمنصوص عليه في الفصل 27 من الدستور. إضافة إلى ذلك، عمل المشرع الدستوري على إحداث مجموعة من المؤسسات والهيئات الدستورية، في نفس الباب الثاني عشر المومأ إليه أعلاه، وجعل من بين مهامها الحرص على تفعيل المبادئ الدستورية المتعلقة بالمرافق العمومية، ويتعلق الأمر بمؤسسة الوسيط التي تم التنصيص عليها في الفصل 162، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها والتي تم التنصيص عليها في الفصل 167.
فهل تستطيع هذه المبادئ التي نص عليها الدستور أن تتجاوز الإختلالات التي يعاني منها المرفق العمومي؟ وهل المؤسسات الدستورية المعنية ببلورة هذه المبادئ
على مستوى الواقع قادرة على تفعيلها؟ رغم أن دورها يبقى في غالب الأحيان استشاري، أم أن هذه المبادئ المنصوص عليها دستورية تبقى مجرد حبر على ورق؟ يكون المراد منها إرضاء فقط أطراف المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب في مطلع القرن العشرين.
وما حملنا على طرح هذه التساؤلات، هو أن تفعيل مجموعة من تلك المبادئ الدستورية، يبقى رهينة بإصدار ميثاق المرافق العمومية المنصوص عليه في الفصل 157 من الدستور، والذي يتجلى دوره في الإنتقال بهذه المبادئ إلى تنزيلها على شكل أهداف ملموسة، وتقييمها بالإعتماد على مؤشرات دقيقة، إذ نجد أن هذا الفصل الدستوري، ينصت على أنه (يحد میثاق للمرافق العمومية قواعد الحكامة الجيدة المتعلقة بتسيير الإدارات العمومية والجهات والجماعات الترابية الأخرى والأجهزة العمومية). إلا أن هذا الميثاق لازال حبيس الرفوف، ولم يتم إصداره رغم مرور ما يقارب سبع سنوات ونصف من التنصيص عليه في الدستور.
هذا الأمر يجعل المرافق العمومية بالمغرب تعتريها العديد من الإشكالات، ونأخذ على سبيل المثال وليس الحصر، العلاقة التنازعية بين الإدارة والمرتفقين، حيث أنه في غالب الأحيان نجد أن المواطن المغربي ينظر إلى الإدارة التي تقم له الخدمة كأنها تمنحه امتیازة، ولا يدري على أنه حق عادل ومشروغ خوله الدستور له.
وكذلك هناك صعوبات تتعلق بإرساء الخدمات الإلكترونية داخل المرفق العام المغربي، لأنه من شأن تحديث الإدارة المساهمة في تجاوز أزمة المرفق العمومي وسوء تدبيره، وهذا بخلاف بعض الدول التي حققت نجاحا مهما تجلى في تبيها إدارة إلكترونية أو حكومة الكترونية، استطاعت من خلالها توفير خدمات جيدة الأداء للمرتفقين. وعملت بواسطتها على القضاء و التغلب على مجموعة من مظاهر الفساد مثل " الرشوة، البيروقراطية، المحسوبية، الزبونية..." د ولسبر أغوار هذا الموضوع ودراسته بشكل موضوعي وأكاديمي، يتطلب من الأمر بحث مختلف المبادئ المشار إليها أعلاه والتي تخص المرفق العمومي، وبيان مدى تأثيرها على مستوى الواقع العملي واستجابتها لتطلعات المرتفقين، وذلك من أجل الوقوف على مواطن الخلل والضعف التي تعاني منها الإدارة المغربية، مستحضرین في غالب الأحيان بعض الدراسات الميدانية التي قامت بها بعض المؤسسات الدستورية، محاولين بناء على هذه الدراسات تشخیص وإبراز بعض المظاهر التي لها تأثير سلبي على المرفق العمومي المغربي.
وبعد الشروع في إبراز هذه المظاهر التي لها تأثير سلبي على المرفق العمومي، سنحاول ما أمكن إيجاد بعض الحلول المناسبة والملائمة التي نتمنى أن تساهم من الحد من هذه الإختلالات.
وتجدر الإشارة إلى أننا سنقتصر في هذه الدراسة على البحث في مختلف المبادئ التي تحكم سير المرفق العمومي التي حث عليها الدستور المغربي دون التطرق الأساليب وطرق إدارة المرافق العامة سواء تلك التي تدار بواسطة أشخاص القانون العام أو تلك التي تدار عن طريق أشخاص القانون الخاص على أساس أن الدستور لم يهتم بها من جهة، وعلى أساس أن موضع دراسة هذه الطرق والأساليب تطرق إليها العديد من الباحثين و أصبحت مستهلكة من جهة أخرى.
أهمية الموضوع:
وبالتالي يظهر أن لهذا الموضوع "المقاربة الدستورية للمرفق العمومي بالمغرب" أهمية نظرية وأهمية عملية.
فبالسبة للأهمية النظرية، تتجلى في تلك المبادئ الأساسية التي جاء بها الدستور والتي تعد قفزة أو طفرة نوعية على مستوى حوكمة المرافق العمومية، لأنها حاكي وساير بعض الدول المتقمة في هذا المجال من أجل تحقيق حکامة مرافق عمومية فعالة، بالإضافة إلى دسترة بعض المؤسسات التي تتولى الإشراف و مراقبة العمل الصادر عن المرافق العمومية ومدى التزام هذه المرافق بالمبادئ الدستورية التي تحكمها.
أما بالسبة للأهمية العملية، فتتمثل في تلك الإكراهات والصعوبات التي لا زالت تتخبط فيها المرافق العمومية إلى حد الآن ، كتعقيد المساطر الإدارية مما يجعل البون "الفرق" شاسعة، بين الواقع الحالي للمرافق العمومية والمبادئ الحديثة التي أقرها الدستور في هذا الصدد.
إشكالية الموضوع: وعليه تطفو إلى السطح، إشكالية محورية مفادها، " إلى أي حد ستساهم هذه المبادئ الدستورية من تجاوز أزمة المرفق العام بالمغرب؟ ".
الإعلان عن التصميم:
وللإجابة على هذا الإشكالية ارتأينا تقسيم هذا الموضوع إلى فصلين، يهم الأول منه الشق النظري، ويتعلق الثاني بالشق العملي، الشق النظري نعمل فيه على بسط مختلف المبادئ والمؤسسات التي من شأنها النهوض بالمرفق العام، أما الشق العملي فسنحاول فيه إبراز مجموعة من الإختلالات التي رصدتها بعض المؤسسات الدستورية کالوسيط، عند قيامها ببعض الدراسات الميدانية حول المرفق العمومي، معتمدين في ذلك على المنهجين التحليلي والوظيفي. وهذا ما حملنا إلى تقسيم هذا الموضوع إلى فصلين.