مبدأ التدبيرالحر للجماعات الترابية بالمغرب بين التأصيل الدستوري و الحماية القضائية
مقدمة
يشكل الاستقلال الإداري والمالي عصب نظام اللامركزية الإدارية، فبدون وجود اختصاصات فعلية وموارد كافية تبقى الديموقراطية المحلية فاقدة لأي مضمون أو رهان، ويمكن القول إن التأطير القانوني للجماعات الترابية يستهدف بالدرجة الأولى تدقيق مجالات التدخل وتعزيز آليات التدبير وتوسيع حرية المبادرة وتقليص جوانب ومساطر المراقبة الإدارية التي تمارسها السلطة المركزية على الوحدات المحلية.
وقد ظلت علاقة الجماعات الترابية بالدولة عبر مختلف القوانين والمواثيق المرتبطة بمساري اللامركزية واللاتمركز تتأرجح بين منح اختصاصات محدودة وإمكانيات ضئيلة مقابل تشدید مساطر ومقتضيات المراقبة، في غياب أية ضمانات دستورية وتنظيمية تساعد المجالس المنتخبة على ممارسة اختصاصاتها وتحمل مسؤولياتها، غير أن الدستور الجديد لسنة 2011 أتى بمستجدات مهمة على مستوى التنظيم الترابي عبر تحصين عمل البنيات اللامركزية بموجب مبادئ دستورية مهمة كالتفريع والتدبير الحر.
ومن وجهة نظر قانونية يعتبر التدبير الحر بمثابة الترجمة الفعلية لمفهوم للتدبير الديموقراطي، فمن الناحية التاريخية فقد دأبت كل الدساتير السابقة على التأكيد على مبدأ التدبير الديموقراطي للوحدات اللامركزية بواسطة مجالس منتخبة، عبر تضمين مقتضی دائم بصيغة متواترة تنتخب الجماعات المحلية مجالس مكلفة بتدبير شؤونها تدبيرا ديمقراطيا طبق الشروط التي يحددها القانون}.
غير أن هذا التنصيص لم يكن كافيا إذ حصرته لجل التأويلات في مجرد اقتراع شكلي للهيئات والأجهزة ، دون أن يمتد أثر ومفعول البعد الديموقراطي إلى نواحي التدبير وتوسيع حرية العمل والمبادرة، وإلى ربطه بضمانات تکفل ممارسة فعلية للاختصاصات والموارد، ليتم لاحقا دسترة التدبير الحر وجعله النواة الصلبة للتنظيم الترابي، بمعنى أن تمارس الجماعات الترابية اختصاصاتها بما هو موكول لها في النصوص القانونية، على أن تمارس الدولة حق المراقبة البعدية، بترك نوع من الحرية للمدبر المحلي في ممارسة اختصاصاته في مقابل مساءلته عن النتائج التي أنجزها.
ومن هذه الزاوية، يشكل التدبير الحر ضمانة قانونية مهمة لتعزيز شرعية الجماعات الترابية ودعم دورها التنموي، فعلى المستوى العضوي تم تعميق البعد الديموقراطي للتنظيم الترابي في الإصلاح الدستوري الجديد، وعلى المستوى الوظيفي تم التأكيد على تخويل الجماعات الترابية أدوارا متعاظمة تتجاوز التسيير الإداري إلى تدبير التنمية، من حيث نوعية الاختصاصات المسندة والقابلة للتحويل وكيفيات ممارستها وتمويلها.
فما مدى مساهمة التأصيل الدستوري لمبدأ التدبير الحر في تعزيز الاستقلال المالي والإداري للجماعات الترابية وفي تقوية أدوارها التنفيذية وفي تكفلها باختصاصات تنموية فعلية، ودورها في بناء علاقة متوازنة مع السلطة المركزية، وماهي ممکنات مساهمة الرقابة القضائية في تحصين هذا الدور؟.
وتنبثق عن هذه الإشكالية الرئيسية الأسئلة الفرعية التالية: ماهي محددات وأبعاد التدبير الحر؟، وما مدى مساهمة الضمانات الدستورية في تقوية الأدوار التنفيذية للمجالس المحلية المنتخبة؟، وإلى أي حد امتثل التنزيل القانوني والتنظيمي لهذا المبدأ لروح الدستور؟، وماهي الآفاق الممكنة لإسهام القضاء الدستوري في تحصين مبدأ التدبير الحر بالمغرب على ضوء التجربة الفرنسية؟
ويمكن صياغة فرضيات هذه الدراسة في كون تجسيد التدبير الحر للجماعات الترابية بالمغرب لا يتوقف على مجرد الإقرار الدستوري والقانوني، بل يحتاج إلى تأطيره بضمانات عملية وحماية قضائية كي تتمكن المجالس المنتخبة من تفعيل اختصاصاتها وتدبير تدخلاتها وفق منظور مرن للمراقبة الإدارية، كما أن توسيع تطبيقات مبدأ التدبير الحريرتبط أساسا بالرفع من الكفاءة المعرفية والقدرة التدبيرية للمنتخبين المحليين.
وقد اقتضت طبيعة الدراسة اعتماد المنهج التحليلي الوصفي من خلال تتبع وجرد النصوص القانونية والتنظيمية المرتبطة بتأطير مجالات وآليات تدخل الهيئات اللامركزية، إلى جانب الاستعانة بالمنهج المقارن في سياق رصد ممکنات استثمار التجربة الفرنسية في تطبيق وحماية مبدأ التدبير الحر بالمغرب.
وللإجابة عن إشكاليات البحث وتمحیص فرضياته، سنحدد في البداية الأبعاد العضوية والوظيفية المفهوم التدبير الحر، مع إبراز السياق الذي برز فيه وتحوله إلى مبدأ دستوري يعول عليه في تقوية الأدوار التنفيذية للمجالس المنتخبة، وفي تمكينها من القيام باختصاصات فعلية تعكس المضمون التنموي المتوخي من الديموقراطية المحلية ومن نظام اللامركزية (المبحث الأول)، وفي مرحلة ثانية سنرصد المقتضيات التي جاءت بها القوانين التنظيمية للجماعات الترابية وما تضمنته من حدود وتقييدات، تفرض سن بعض الإجراءات المواكبة وتكريس دور الرقابة القضائية في تحصين مبدأ التدبير الحر (المبحث الثاني)
المبحث الأول: التأصيل الدستوري لمبدأ التدبير الحرورهاناته
لم تقم الوثيقة الدستورية ولا القوانين التنظيمية بوضع مفہوم للتدبير الحر، الأمر الذي يجعله مفهوما واسعا يشمل عدة دلالات وأبعاد، لكنها تتقاطع في النهاية في توسيع حرية الفعل ومجالات التدخل لدى الجماعات الترابية، من حيث كونه إطارا لتكريس المنشأ الديموقراطي للمجالس المحلية المنتخبة، وضمان علاقة متوازنة مع الدولة عضويا ووظيفيا(المطلب الأول)، وأداة لإسناد الأدوار التنفيذية للجماعات الترابية من خلال ربطها بباقي المبادئ الدستورية التي توخت تعزيز الوظائف التنفيذية للمجالس المنتخبة من قبيل السلطة التنظيمية والاستقلال المالي (المطلب الثاني).
المطلب الأول: الأبعاد العضوية والوظيفية لدسترة مبدأ التدبير الحر
إذا كان الدستور المراجع لسنة 1996 قد شكل مجرد مرجعية لمبدأ التدبير الديموقراطي بصيغة عامة وملتبسة، فإن الدستور الحالي شكل مظهرا متقدما في حفظ الاستقلال المحلي ضد كل أشكال تدخل السلطات المركزية في الشؤون المحلية، بحيث أدخل التدبير الحر ضمن مبادئ التنظيم الترابي، وتشكل دسترة هذا المبدأ ترجمة مباشرة لإرادة تكريس الجماعات الترابية كهيئات حرة ومستقلة في علاقتها بمصالح الدولة ، وهو ما شكل نقلة نوعية في توسيع المنهجية الديموقراطية في تشكيل المجالس المنتخبة، حيث أكد الفصل 135 على مسألة المنشأ الديموقراطي للمنتخبين المحليين، عبر الربط بين المرجعية الانتخابية في تكوين المجالس المحلية وبين استحضار الديموقراطية كآلية للتدبير، ويجد هذا الإقرار فلسفته في المبدأ الديموقراطي القاضي بالربط الجدلي بين التمثيلية المباشرة وممارسة الاختصاص.
وقد كرس الدستور الجديد البعد الديموقراطي على مستوى الوحدات اللامركزية، عندما نص على اعتبار الجماعات الترابية أشخاصا معنوية خاضعة للقانون العام تسير شؤونها بكيفية ديموقراطية، وعلى اعتماد أسلوب الاقتراع العام المباشر في تكريس المسار الانتخابي للجماعات القروية والحضرية، ويشكل هذا التنصيص الصريح على الاقتراع العام المباشر ضمانة دستورية أساسية للاستقلال العضوي للجماعات الترابية، لأن تعديل صيغ انتخاب الجماعات والجهات يتطلب تعديلا دستوريا، كما أنه يشكل أداة لدعم الديموقراطية المحلية على اعتبار أن الاقتراع العام المباشر هو التقنية الأكثر ملاءمة لضمان تمثيل سياسي فعلي للمواطنين .
وقد عملت الفقرة الثالثة من الفصل 135 على تعميم هذه المنهجية على المؤسسة الجهوية بالتنصيص الصريح على أن مجالس الجهات تنتخب بالاقتراع العام المباشر، في سياق توسيع القاعدة الترابية للامركزية وجعل جميع الهيئات التداولية لمختلف الجماعات الترابية تقوم على أساس الشرط الانتخابي الذي يعد أحد التطبيقات الأساسية لمبدأ التدبير الحر للجماعات الترابية، فهذا الأخير يرتبط بالمرجعية الديموقراطية للأجهزة التي تتولى تدبير شؤون الجهات والجماعات الترابية الأخرى ، فالاعتراف بوجود مصالح محلية يستوجب أن تسهر عليها وتديرها وحدات لامركزية، تتمتع بميزانية خاصة ونظام قانوني يضمن لها ممارسة حرياتها.
ويترتب عن توسيع القاعدة الانتخابية في تشكيل الهيئات التداولية والتنفيذية للجماعات الترابية تقوية بعدها التمثيلي بما يضمن استجابتها لانتظارات المواطنين، وهو رهان دونه تمتيع الهيئات المنتخبة باختصاصات فعلية، تجسيدا لمبدأ التدبير الحر الذي يقتضي إحداث هندسة جديدة في توزيع السلطات بين الدولة والجماعات الترابية وفق مقتضيات المواكبة والتشارك، في إطار تحديث إداري ينبني على تدقيق مقتضيات الرقابة، باعتبار هذا المبدأبمثابة الترجمة الإدارية لنظرية الديموقراطية المحلية، فهو يتيح للجماعات الترابية كوحدات متمتعة بالشخصية المعنوية نوعا من الاستقلال في التدبير بعيدا عن تحكم ووصاية الدولة.
لقد وضع النص الدستوري مبدأ التدبير الحر ضمن مصاف المبادئ المحدة لنظام اللامركزية للمملكة، بل أعتبر النواة الصلبة للتنظيم الترابي، على اعتبار أن المكانة الممنوحة للمسألة الديموقراطية في دستور 2011 صوحبت منطقيا بإعادة تحديد التنظيم الترابي للدولة بكيفية تضمن إحداث قطيعة هيكلية عبر تأكيد التدبير الحر للجماعات الترابية، وقطيعة وظيفية بممارسة اختصاصات منقولة تحت رقابة القضاء بدل رقابة الملاءمة، ولذلك فهولا يمس بطبيعة الدولة، بل يستهدف إصلاح بنياتها وضمان تموقع جديد للجماعات الترابية بمنحها هامشا واسعا من الاستقلالية في التدبير الديموقراطي لشؤونها، بمعنى أنها تتمتع باختصاصات ذاتية وحقيقية مثبتة بقانون وليس بنصوص تنظيمية أو بدوريات بسيطة لوزارة الداخلية، تمكنها من اتخاذ القرارات وتدبير مصالحها الخاصة .
ووفقا لهذا المنظور، تتجلى أهمية هذا المبدأ في كونه غدا مرجعا أساسيا في تعميق اللامركزية وتنظيم العلاقة بين الدولة والجماعات الترابية وتفادي مسألة تنازع الاختصاص، وكذلك في توسيع وتدقيق صلاحيات الجماعات الترابية وجعلها شريكا حقيقيا وأساسيا في عملية التنمية، ولذلك ينص الفصل 140 على اختصاصات الجماعات الترابية، وهو ما يشكل تجسيدا لمبدأ التدبير الحر حيث تنص الفقرة الأولى على أن الجماعات الترابية تتوفر على اختصاصات ذاتية واختصاصات مشتركة مع الدولة واختصاصات منقولة إليها من هذه الأخيرة.
فعلى صعيد تعميق الاختصاصات الذاتية فقد تم حصر بعض مجالات تدخلها وفي مقدمتها المهام المرتبطة بتدبير التنمية الترابية، كاستراتيجية يتم إعدادها وإعمالها من طرف الجماعات الترابية، وفي إطار يضمن لها ممارسة اختصاصاتها وفق مبدأ التدبير الحر الذي جاء به الفصل 136 في فقرته الأولى ، وعبر التكريس الدستوري للعديد من المبادئ التوجيهية وللضمانات الفعلية المفضية إلى تقوية دور الجماعات الترابية في ميدان التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يعتبر تغييرا جذريا على مستوى الاختصاصات بصفة عامة، والاختصاصات التنموية التي ستوكل لهذه المجالس مع تمكينها من الموارد المالية الكفيلة بتحقيقها.
ونشير بهذا الخصوص إلى علاقة التدبير الحر بالاستقلال الإداري والمالي، فهو يرتبط باستقلال الهيئات اللامركزية في علاقتها بالأشخاص العمومية الأخرى وخاصة الدولة، ومدى قدرتها على ممارسة الاختصاصات وترتيب الالتزامات ، والتصرف في الموارد والتقرير بكل استقلالية في ميزانيتها الخاصة ،فبدون هامش مهم من استقلال مالي لا يمكن للجماعات تفعيل سياساتها الاقتصادية المحلية، ذلك أن تركيبة الموارد الخاصة والمحولة يمكن أن تمس بمبدأ التدبير الحر الذي يرتبط أساسا بوجود سلطة جبائية مستقلة، وليس بتدبير الوسائل المالية ذات الأصل الخارجي، وهو ما يعني أنه لا يمكن إطلاقا الحديث عن قدرة الجماعات الترابية على تدبير اختصاصاتها في غياب موارد ذاتية مستقلة وتقييد حريتها في استعمالها وتخصيصها.
المطلب الثاني: دور التدبير الحرفي تقوية الأدوار التنفيذية للمجالس المنتخبة
من مستلزمات التدبير الحر منح المجالس المنتخبة سلطة تنظيمية لتطبيق القانون، وفرض بعض المعايير العامة ضمن مجالها الترابي، وتعني السلطة التنظيمية المحلية الصلاحية الممنوحة للأجهزة التنفيذية للجماعات الترابية في اتخاذ التدابير اللازمة التي يتطلبها استمرار المرفق العام، والحفاظ على النظام العام بمدلولاته التي تشمل الأمن العام والصحة العامة والسكينة العامة داخل نفوذها الترابي، والتدخل لتنظيم أوجه الحياة العامة في مجالاتها المتعددة عن طريق اتخاذ قرارات تنظيمية عامة وقرارات إدارية فردية بالإذن أو المنع أو الترخيص ، في إطار يحدده القانون وضمن دائرة ترابية محددة.
وبهذا المعنى، يرتبط مبدأ التدبير الحر بممارسة المجالس المنتخبة للسلطة التنظيمية في حدود اختصاصاتها، عن طريق إصدار أعمال وإجراءات ذات طابع تنظيمية، بحيث تشكل السلطة التنظيمية المحلية أداة وشرطا لتجسيد التدبير الحر، الذي يظل في غيابها فاقدا لأي محتوى عملي، فلكي ثدير الجماعات الترابية نفسها بكيفية حرة يجب أن تتوفر على وسائل قانونية كافية، وفي مقدمتها الاعتراف لها بالسلطة التنظيمية، التي تشكل وسيلة قانونية مهمة تتولى من خلالها وضع قواعد تنظيمية في المجالات المحددة من طرف القانون. .
ويرتبط السياق العام للتنصيص الدستوري على السلطة التنظيمية المحلية لفائدة الجماعات الترابية بالإرادة السياسية في الأخذ بنظام متقدم للجهة، تعزز فيه صلاحياتها ولاسيما التقريرية منها في نطاق مبدأ التدبير الحر ومبدأ التفريعة، وهناك من يعتبر أن الاعتراف الدستوري بسلطة الجماعات الترابية في المجال التنظيمي هو تحصيل حاصل، على اعتبار أن الدساتير السابقة قد كرست بشكل ضمني السلطة التنظيمية المحلية، حيث نصت على أن الجماعات المحلية تسير شؤونها بكيفية ديموقراطية، وهذا التسيير يقتضي بالضرورة ممارسة السلطة التقريرية التي تمتد حتما إلى السلطة التنظيمية، مما يعني اعتبار هذا المقتضى الدستوري كتكريس لوجود سلطة تنظيمية محلية تغطي بشكل كلي مساحة الاختصاصات التي تمارسها الجماعات المحلية .
ونفس المسار مرت به التجربة الفرنسية، حيث كرست الاجتهادات الفقهية والقضائية هذا المبدأ عبر العديد من القرارات والأحكامالصادرة عن مجلس الدولة الذي اعترف للسلطات المحلية بالحق في تحديد الشروط العامة لتنفيذ اختصاصاتها المنصوص عليها قانونيا، شريطة احترام المعايير المحددة دستوريا 54، قبل أن تتم دسترته بموجب المراجعة الدستورية لسنة 2003 والتي منحت السلطة التنظيمية للجماعات كترجمة لمبدأ التدبير الحر، بقصد تمكينها من القيام باختصاصاتها بشكل أفضل، أو بصيغة أكثر دقة من أجل تحديد شروط ممارسة مهامها، حيث اعترفت الصيغة المعدلة للفصل 72 من الدستور الفرنسي للهيئات التنفيذية للمجالس المحلية بإمكانية القيام بأعمال تنظيمية التنفيذ اختصاصاتها.
وقد عمل الدستور المغربي الجديد على تأصيل هذه السلطة، حيث نصت الفقرة الثانية من الفصل 140 بشكل صريح على تمتيع الجماعات الترابية بالسلطة التنظيمية الكفيلة بممارسة صلاحياتها في مجالات اختصاصاتها وداخل دائرتها الترابية، مع ما يعنيه ذلك من حاجة إلى تنظيم هذه السلط ووضع المؤسسات الإدارية اللازمة لممارستها، وتدعيم وتعزيز سلطتها المعيارية المحلية، وهو تحول اعتبره البعض لبنة أساسية نحو تبلور قانون دستوري محلي يعكس حجم ونوعية الإصلاحات السياسية الجارية في سياق الجهوية المتقدمة.
وقد عملت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية على تنزيل هذا المستجد الدستوري، في قفزة نوعية تؤسس لمرحلة جديدة في تدبير الشأن المحلي تتماشى مع التحديات والرهانات الجديدة للتدبير الترابي للتنمية، حيث تم تكريس هذا المقتضى بموجب المادة 95 من القانون التنظيمي للجماعات التي نصت على أنه تطبيقا لأحكام الفقرة الثانية من الفصل 140 من الدستور، يمارس رئيس مجلس الجماعة السلطة التنظيمية بموجب قرارات تنشر بالجريدة الرسمية للجماعات الترابية ، ونفس المضمون ورد بصيغة مطابقة في القوانين التنظيمية المتعلقة بالجهات والعمالات أو الأقاليم .
وتعتبر السلطة التنظيمية المحلية بموجب هذه القوانين، سلطة خاصة برؤساء المجالس الترابية وليست مرتبطة بالضرورة بتنفيذ مداولات الأجهزة التقريرية للجماعات، أي أنها ليست مجرد سلطة بسيطة لتنفيذ قوانين ، فالجماعات الترابية باعتبارها أشخاصا معنوية عامة تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي لا بد وأن تتوفر على سلطة تقريرية عامة ومجردة في مجال اختصاصاتها المذكورة في النص الدستوري وفي القوانين التنظيمية، لأنه لا يمكن من الناحية العملية أن نتصور ممارسة الجماعات الترابية لهذه الاختصاصات التي ذكرها المشرع بتحديد مواضيعها وأحكامها العامة بدون إصدار قواعد عامة ومجردة، ومن أجل تحقيق هذه المقاصد فقد نصت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية على مجالات أخرى لممارسة السلطة التنظيمية ، وفي مقدمتها تلك المرتبطة بتدبير التنمية الترابية، مثل تطبيق وثائق التعمير وممارسة الشرطة الإدارية الجماعية، حيث تمارس السلطة التنظيمية في هذين القطاعين بحرية قانونية واسعة.
وإضافة إلى ذلك توجد مجالات أخرى لممارسة هذه السلطة كالتنظيم الإداري الداخلي، عبر سن قوانين داخلية لتنظيم الهياكل المنتخبة وطريقة تسييرها، مثل تبني نظام التدبير بالأهداف ووضع منظومة لتتبع المشاريع والبرامج تحدد فيها الأهداف المراد بلوغها ومؤشرات الفعالية المتعلقة بها، ووضع دلائل للمساطر المتعلقة بالأنشطة والمهام المتعلقة بالأجهزة التنفيذية والتدبيرية ، إضافة إلى بعض القرارات ذات الطابع المالي كتحديد نسب بعض الجبايات المحلية، إلى جانب إنشاء وتنظيم واختيار الطرق المناسبة لتسيير المرافق العمومية المحلية، وهو ما يعني تعزيز الدور التقريري والموقع التنفيذي للجماعات الترابية.
ونشير بهذا الخصوص إلى أن السلطة التنفيذية المحلية ظلت عبر مختلف مراحل تطور نظام اللامركزية بالمغرب موزعة بين الهيئات المنتخبة والأجهزة المعينة، التي استمرت في الاحتفاظ بدورها التدخلي والتنفيذي إلى حين الشروع في الإصلاحات الدستورية والقانونية الجديدة، حيث شكل دستور 2011 قطيعة مع النظام القانوني للسلطة التنفيذية المحلية، من خلال تقوية السلطات التقريرية للرئيس المنتخب وفي مقدمتها اتخاذ التدابير والإجراءات الكفيلة بتنفيذ مداولات وقرارات المجالس كإرادة لتكريس مبدأ التدبير الديموقراطي للجماعات الترابية
وتشكل صلاحية تنفيذ مداولات ومقررات المجالس المحلية إحدى مقومات التدبير الحر، وتطبيقا آخر من تطبيقاته على اعتبار أن نقل السلطة التنفيذية إلى رؤساء مجالس الجهات والعمالات أو الأقاليم بموجب الفصل 138 من الدستور، سيقوي بالتأكيد من ممارسة التدبير الحر ويوسع مجالاته، مما يشكل إطارا لتدعيم مبدأ الشرعية والديموقراطية المحلية، وهو ما يعني وضع حد للبس الذي كان يطبع التنظيم اللامركزي عندما كان الأمر بالصرف هو الوالي والعامل على مستوى الجهات والعمالات والأقاليم، بحيث كان العامل بمركز الجهة يتمتع بصلاحيات واسعة باعتباره المسؤول عن تنفيذ قرارات المجلس الجهوي بل له الحرية في اتخاذ التدابير اللازمة للتنفيذ.
وقد مثل الفصل 138 منعطفا حقيقيا في إقرار ديموقراطية متقدمة للإصلاح الترابي، لأن الأجهزة التنفيذية للمجالس المنتخبة لا يمكن أن تقوم بمجرد دور استشاري أو اقتراحي بل بأدوار فعلية وهي المسؤولة عن تنفيذ قراراتها الخاصة بدل ممثل الدولة، حيث أصبح الولاة والعمال غير مؤهلين لتنفيذ مداولات المجالس بما يفيد تعزيز الضمانات الدستورية للاستقلال المحلي.
ويمكن تفسير هذا التوجه الجديد بثلاثة اعتبارات متداخلة، أولها يتعلق بأجهزة تدبير مستقلة لها کامل الصلاحيات في التقرير والتنفيذ، ويرتبط الاعتبار الثاني بطبيعة النظام اللامركزي الذي يفترض عدم الفصل بين الجهاز التنفيذي والهيئة التداولية، أما الاعتبار الثالث فيرجع إلى عملية إعادة توجيه أدوار ووظائف الولاة والعمال من التدخل المباشر والوصائي نحو صلاحيات مرتبطة بالمراقبة والمساعدة .| وتنزيلا لمقتضيات الفصل 146 فقد عملت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية على تكريس هذه السلطة بالتنصيص على عدة صلاحيات تدبيرية وتنفيذية لصالح رؤساء مجالس الجهات والعمالات والأقاليم الذين منحت لهم مهمة تنفيذ قرارات هذه المجالس ، فقد عمل القانون التنظيمي للجماعات على تكريس وضعية رؤساء المجالس الجماعية الذين يمثلون السلطة التنفيذية والتدبيرية ، باتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتنفيذ الميزانية باعتبارهم أمرين بصرف النفقات وقبض المداخيل، وكذلك تنفيذ برامج العمل والمخططات واتخاذ القرارات لأجل تحديد سعر الرسوم وتعريفة الواجبات ومختلف الحقوق .
ووفق هذه الرؤية، يرتبط مبدأ التدبير الحر بتحصين عملية إسناد الاختصاصات للمجالس
المنتخبة وإعطائها مضامين تنموية، بشكل يجعلها تستهدف تغيير الواقع المحلي وليس مجرد التسيير اليومي الإجرائي ، من خلال تمتيعها بالوسائل المادية والموارد المالية الضامنة لتجسيدها بشكل مستقل 70، لكن في المقابل فقد أوردت النصوص القانونية بعض التقييدات على المبدأ وهو ما يلقي على عاتق القضاء الدستوري والإداري مهمة حمايته.