المسؤولية التأديبية على عمل الموثق وفق القانون 32.09 المنظم لمهنة التوثيق
تعتبر مهنة التوثيق من المهن الحرة النبيلة شأنها في ذلك شأن المحاماة والهندسة والطب، ونبل هذه المهنة تستمده من أهميتها وتاريخها العريق، فهي ضارية في القدم، عرفتها الإنسانية منذ الأزمنة الغابرة في شتى صورها ومختلف أشكالها سواء من حيث كيانها المادي أو من حيث محتواها ومضمونها.
ولكي يكون المحرر التوثيقي صحيحا ومنتجا لكل أثاره فقد اشترط المشرع أن تتوفر فيه العديد من الشروط، سواء الشروط الشكلية أو الشروط الموضوعية، كما تم تحديدها في قوانين المهنة أو في نصوص أخرى كقانون الالتزامات والعقود ومدونة التجارة ومدونة الضرائب ومدونة الحقوق العينية وغيرها، كما يجب توفر شروط أخرى في محرر هذا المحرر التوثيقي نفسه أي الموثق، منها ما يتعلق بتكوينه وكفاءته وعلمه، ومنها ما يتعلق بقدراته البدنية والعقلية، ومنها ما يرجع لسلوكه وتمسكه بمبادئ الأمانة والنزاهة والتجرد والشرف وما تقتضيه الأخلاق الحميدة وأعراف وتقاليد مهنة التوثيق.
واحترام هذه الشروط التي تعتبر ضوابط مهنية يجب التمسك بها والاهتداء بمقتضياتها يستوجب في الموثق أن يكون لديه ميول فطري لممارسة هذه المهنة واستعداد كامل لتحمل أعبائها الشاقة مستبعدا تحقيق الأطماع المادية والتي قد تؤدي بمن يسعي في تحقيقها إلى الخروج عن الجادة وعدم الوفاء بقدسية اليمين القانونية التي طوق بها نفسه قبل الشروع في العمل.
وإخلال الموثق بالالتزامات الواقعة عليه، سواء الالتزامات التي تفرضها عليه النصوص القانونية ، أو الالتزامات المتعلقة بأعراف المهنة، قد يعرضه للمساءلة، سواء في إطار المسؤولية المدنية أو الجنائية، | أو المسؤولية التأديبية، هذه المسؤولية التي يترتب عنها عقوبات قد تصل إلى العزل عن المهنة.
وتكمن أهمية هذا الموضوع في الدور الفائق الذي يلعبه مرفق التوثيق، لما له من دور فعال في ضمان استقرار المعاملات العقارية وتحقيق الأمن التعاقدي، وبالتالي فدراسية المسؤولية التأديبية لهذا المني لها أهمية كبيرة وذلك من خلال تحديد الاختلالات التي ترتب هذه المسؤولية وكذا العقوبات التي تكون جزاء هذه الاختلالات، كما أن تقرير هذه المسؤولية من طرف المشرع المغربي له دور كبير في حماية المهنة و كذا المتعاملين مع الموثق.
وتتفرع عن هذه الإشكالية العديد من التساؤلات يمكن أن نجملها في ما يلي :
متى يسأل الموثق تأديبيا ؟ وما هي حدود هذه المسؤولية ؟ ومن يملك حق المساءلة؟ وما هي حالات وإجراءات المتابعة؟ وما هي جزاءات هذا المتابعة؟ ما هي إجراءات المحاكمة؟ وماهي ضمانات المحاكمة التأديبية العادلة؟ وكيف يتم الطعن في القرارات التأديبية الصادرة في حق الموثق؟
ولقد اعتمدنا في هذا الموضوع على كل من المنهج التحليلي والوصفي، وذلك عن طريق جرد ووصف النصوص القانونية المتعلقة بالتوثيق وتحليلها، وكذا تحليل أهم الإشكالات التي تطرحها، كما اعتمدنا أيضا على المنهج المقارن كلما اقتضى الأمر ذلك.
ولمعالجة هذا الموضوع ومحاولة الإجابة على كل الإشكالات التي يطرحها حاولنا الاعتماد على التصميم التالي :
المطلب الأول: أحكام المسؤولية التأديبية للموثق
المطلب الثاني: مسطرة المتابعة والمحاكمة التأديبية والطعن في المقررات التأديبية.
المطلب الأول: أحكام المسؤولية التأديبية للموثق
إن النصوص القانونية والتشريعية هي المصدر الوحيد للمخالفات التأديبية، فالموثق الذي يخالف هذه النصوص القانونية يكون عرضة للمساءلة التأديبية.
ولتحديد أحكام المسؤولية التأديبية للموثق فسنحاول تقسيم هذا المطلب الفقرتين، سندرس ماهية المسؤولية التأديبية للموثق والغاية منها في الفقرة الأولى)، أما في الفقرة الثانية) فسنحاول دراسة المخالفات والعقوبات التأديبية.
أولا: ماهية المسؤولية التأديبية للموثق باستقراء مواد القانون 32 , 09° المنظم لمهنة التوثيق العصري بالمغرب نجد أن المشرع قد أحجم على تعريف المسؤولية التأديبية للموثق، فالمادة 73 منه لم تذكر فيها كلمة مسؤولية على الاطلاق بل تكلمت عن إمكانية إصدار عقوبات تأديبية ضد كل موثق خالف النصوص القانونية المنظمة للمهنة، أو أخل بواجباته المهنية، أو ارتكب أعمالا تمم بشرف المهنة أو الاستقامة أو التجرد أو الأخلاق الحميدة أو أعراف وتقاليد المهنة، وما دامت العقوبات هي نتيجة حتمية للمسؤولية، فالإخلال بهذه الأخيرة هو الذي يترتب عنه الجزاء الذي هو العقوبة، فالمسؤولية والعقاب متلازمان، ومن ثم لم يكن من اللازم على المشرع الحديث عن المسؤولية وتعريفها، بل تراه في المادة المذكورة انتقل لاحدیث مباشرة عن الحالات التي تستوجب العقاب وهي المشار إليها أعلاه تاركا مسألة التعريف للفقه.
وتتجسد المسؤولية التأديبية أساسا في مخالفة المهني لواجبه وفقا للمقتضيات القانونية والتنظيم المعمول به، وذلك عند إتيانه عملا إيجابيا أو سلبيا محددا، يعد إخلالا منه بواجبات مهنته أو خروجا عن مقتضياتها، أو يعد مساهمة منه في وقوع الخطأ المهني.
وبالتالي يمكن تعريف المسؤولية التأديبية للموثق بكونها كل الاخلالات والمخالفات التي يرتكبها الموثق أثناء مزاولته لمهنة التوثيق والتي تسيئ إلى الأخلاق والواجبات العامة التي تفرضها عليه مهنة التوثيق، سواء تعلق الأمر بالسلوك العام، أو الخاص، أو الثقة والنزاهة أو بشرف المهنة. وتجد هذه المسؤولية سندها في المواد من 72 إلى 89 من القانون 32 . 09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق العصري.
هل هي واردة على سبيل الحصر أم إن القراءة الصحيحة للمادة 73 تظهر أن هذه الحالات التي جاء بها المشرع في هذه المادة هي على سبيل المثال فقط لا على سبيل الحصر، فإذا كان الإخلال بالواجبات المهنية لا يطرح أي إشكال على مستوى تحديد وتكييف هذا الإخلال، فإن مسألة تحديد الأفعال التي تعتبر مهما بشرف المهنة أو الاستقامة أو التجرد أو الأخلاق تبقي مطلقة ومرسلة بدون حصر ولا تحديد، ومن الصعوبة بما كان تحديدها وحصرها، فالأخلاق والاستقامة مفاهيم متعددة، كما أن أعراف وتقاليد المهنة تختلف من جهة إلى أخرى ومن محل إلى أخر .......